جبل نفايات طرابلس...كارثة بيئية متوقعة شمالي لبنان

لبنان1
27 ديسمبر 2020
+ الخط -

كارثة متوقعة في طرابلس تختمر أسبابها مع الوقت، إذ وصل مكب النفايات إلى حالة كارثية بعد فشل إدارته في معالجة العصارة السامة، بالإضافة إلى خطر انفجار كميات البيوغاز المختزن في طبقات التربة، بسبب الفساد المتراكم.

-تنساب العصارة السامة الناتجة عن مكب نفايات طرابلس شمال لبنان، وتتجمع في جدول على شكل سائل أسود كثيف ذي رائحة كريهة ونفاذة، يمضي في مساره حتى يصل إلى نهر أبو علي الذي ينبع من وادي قاديشا في قضاء بشري شمالا، ويصب في البحر المتوسط عند مدينة الميناء التي تمثل الجزء البحري في طرابلس. وفق ما وثقه معد التحقيق عبر جولة ميدانية داخل منطقة المكب أغسطس/آب 2020.

"تلك العصارة السامة تتسرب من النفايات"، كما يعترف ريبال إلياس، المدير المشرف على المشروع من شركة باتكو التي تدير المكب (مجموعة شركات بدوي أزعور تُعنى بالإنشاءات والمقاولات ومعالجة النفايات الصلبة)، وحسب معاينة معد التحقيق فإنها تصب في البحر من دون معالجة من قبل الشركة.

الصورة
لبنان3

حالة حرجة

عقب انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس الماضي، سادت مخاوف تتعلق بانفجار مكب النفايات في طرابلس نتيجة انحباس البيوغاز (خليط من الغازات الناتجة عن تخمر المخلفات العضوية بمعزل عن الهواء) داخله، فشكلت نقابة المهندسين في طرابلس فريقا من الخبراء البيئيين لإجراء مسح للمكب بطلب من اتحاد بلديات الفيحاء الذي يضم بلديات طرابلس والبداوي والميناء. ضم الفريق البروفسور جلال حلواني، والمهندسين نبيل عبد الحي، وصبحي غالب، للتأكد من موضوع الانبعاثات الغازية وتصريف العصارة ومتانة حائط الدعم.

وأظهرت نتائج الكشف الميداني الذي تم في أغسطس المنصرم، أن "مطمر النفايات الذي تبلغ مساحته 67000 متر مربع، يختزن منذ عام 2013 كميات كبيرة من البيو غاز الناتج عن تحلل النفايات العضوية، ومنذ ذلك الحين، توقفت محرقة البيوغاز ومحطة معالجة العصارة بسبب ملء 38 بئرا أنشئت عام 2000 لتجميع البيوغاز ومعالجته جزئيا، بالإضافة إلى 8 آبار لتجميع العصارة (تحوي مواد كيميائية عضوية ومعادن ثقيلة ناتجة عن تحلل النفايات العضوية) ومعالجتها، كانت أعدتها شركة باتكو التي أنيطت بها مهمة إدارة المكب عام 2000، بينما كميات البيوغاز المختزنة في طبقات التربة تحت المكب، وفي حال تم نبشها ينطلق الغاز في الهواء الطلق، ويكمن الخطر في حال إحداث شعلة يمكن أن تحدث حريقا موضعيا ويتمدد إذا كان هناك مواد قابلة للاشتعال بقربه، أما إن لم يكن هناك شرارة أو صاعقة فلن يحدث حريق أو انفجار". بحسب التقرير الصادر عن نقابة المهندسين والذي حصلت "العربي الجديد" على نسخة منه.

عصارة سامة لا تُعالج

تتسرب العصارة السامة أفقيا عبر التربة وتتجمع أسفل المكب ثم تتدفق خارجه عبر الفتحات المتاحة، مشكّلة تهديدا كبيرا للبيئة المائية حيث يجري تصريفها إلى البحر منذ إنشاء المكب في سبعينيات القرن الماضي، سواء عبر مجرى نهر أبوعلي وصولا إلى البحر، أو إلى البحر مباشرة، كما رصد معد التحقيق.

"وما زاد الطين بلة، أن الشبكة التي استحدثتها شركة باتكو لتجميع العصارة وضخها ومعالجتها لم تعالج سوى نسبة قليلة منها"، بحسب البروفسور حلواني، فأصبح تلوث المياه السطحية كبيرا وظاهرا للعيان، وبقيت المشكلة مستمرة عاما تلو آخر بسبب إخفاق اتحاد بلديات الفيحاء في إيجاد مكان بديل للمكب، فظل تمديد العمل فيه مستمرا حتى وصل ارتفاعه 45 مترا، علما أن ارتفاعه لا يجب أن يزيد على 30 مترا حتى لا يتعرض للانهيار، وفق توضيح حلواني لـ"العربي الجديد".

لبنان5

باتكو في بيان أصدرته في أغسطس الماضي قالت إنّ "تخطّي المكبّ لقدرته التصميمية منذ سنة 2012 أدّى إلى ازدياد كمّية العصارة وعدم قدرة محطة التكرير الحالية على استيعاب هذه الكميات والتي كانت قد صممت قدرتها الاستعابية على أساس إغلاق المكبّ في سنة 2010 ووضع الغلاف العازل النهائي للمكب وفقا للتصاميم الهندسية التعاقدية". وفي رد الشركة على "العربي الجديد"، يقول ريبال إنه لا يمكن لوم الشركة، لأنه كان يفترض وقف المكب عن العمل قبل تجاوزه ارتفاع 30 مترا، وبلوغه الحد الأقصى أدى إلى فشل التمديدات وتكسرها، وبالتالي عدم تمكن الشركة من سحب ومعالجة العصارة والبيوغاز.

وبحسب تقديرات حلواني، فإن 70 مترا مكعبا من العصارة تتسرب يوميا من المكب، بينما تزداد خلال الشتاء مع هطول الأمطار لتصل إلى 110 أمتار مكعبة، بالتالي يزداد انسيابها إلى البحر، ما يشكل تهديدا كبيرا على البيئة البحرية، بسبب احتوائها على غازات مذابة ذات رائحة كريهة أبرزها كبريتيد الهيدروجين والأمونيا.

ويكشف تقرير نقابة مهندسي طرابلس أن محطة معالجة العصارة مهجورة منذ سنوات ولا تقوم بمعالجة العصارة قبل تصريفها إلى البحر.

تلوث بحري هائل

أظهرت نتائج تحليل عينة مياه من البحر قرب المكب أجراها فريق نقابة المهندسين في أغسطس الماضي، أن درجة الحرارة بلغت 28,9 درجة مئوية، وهي درجة مرتفعة ما يعني وجود ملوثات، وتبين وجود مستويات مرتفعة من DCO (استنزاف المادة الكيميائية الموجودة في العصارة للأوكسيجين وإعاقة المعالجة الهوائية) بلغ 26080 ملغم/ لتر، وكان معيار حاجة الكائنات الدقيقة للأكسجين من أجل تحليل المواد العضوية DBO5 عند مستوى 8200 ملغم/ ليتر، وتشكل هذه النسب 70 ضعف تركيزها في مياه الصرف الصحي غير المعالجة، إذ تتراوح نسبة DBO5 بين 300 و400 ملغم/لتر في مياه الصرف الصحي، أما الـ DCO يكون تركيزه 250 ملغم/لتر، ويجري تخفيض تلك التراكيز بنسبة 50% بعد المعالجة الجيدة، وبالتالي فإن نزول العصارة في البحر دون معالجة يتسبب بتلوث هائل واستهلاك كميات كبيرة من الأوكسيجين، ما يحرم الكائنات البحرية منها، ويؤدي إلى نفوقها. بحسب حلواني.

لبنان موقع2

وفي ما يتعلق بنسبة المكونات القابلة لتمرير الكهرباء بالمياه (Conductivity )، بلغت نسبتها 36500 ms/ cm، ما يعني وجود كميات كبيرة من الملوثات الأيونية والمعادن الثقيلة. وفق توضيح النقابة.

تبادل اتهامات

منذ بداية العمل فيه عام 1974، يُعاني المكب من عيب في البنية، حيث لم توضع له طبقة عازلة عند بدء العمل به، وهذا ما يؤكده ريبال، مشيرا إلى أن المكب بدأ عشوائيا لدى إنشائه، وجاء تكليف الشركة عام 2000 في إطار تنفيذ خطة طارئة لوقف الحرائق التي كانت تندلع طوال الفترة السابقة.

لكن حلواني والذي كان يشغل منصب رئيس لجنة البيئة في بلدية طرابلس عند تولي باتكو إدارة المكب، يؤكد أن بنود عقد تلزيم شركة باتكو تضمنت ثلاث مهام أساسية هي تمهيد المكب وضبط ارتفاعه، وحفر الآبار لسحب البيوغاز، وحفر آبار لسحب العصارة ومعالجتها. وفي 2012 تخطى المكب طاقته الاستيعابية وبدأت الانهيارات والمشاكل الناجمة عن فشل نظام سحب العصارة ومعالجة البيوغاز، وبالرغم من ذلك استمر بالعمل.

لبنان4

ويعود سبب الأعطال إلى فشل شبكة التمديدات في جوف الأرض، مدفوعة بضغط الجبل الآخذ بالارتفاع والذي وصل 35 مترا حينئذ، لأن الشركة لم تكن تعالج العصارة كما يجب، وفق حلواني، مضيفا أن الكمية المعالجة كانت متواضعة لا تتجاوز نسبتها 20% بسبب فشل المحطة، وكانت الكمية المتبقية غير المعالجة تذهب إلى البحر. ويجزم حلواني "بأن الجميع كان يعلم وجود خلل بالتصميم وخطأ فني، وكانوا "مطنشين" لأنه لا يوجد استعداد لدفع المال".

يؤكد ذلك رئيس اتحاد بلديات الفيحاء سابقا الدكتور نادر غزال، ويكشف أن الاتحاد طلب في 2012 من باتكو إصلاح أجهزة تنفيس الغازات الناتجة عن التفاعلات الكيميائية للنفايات، لكنها لم تستجب، ما دفعه إلى المطالبة بخصم بدلات الشركة، دون أن يستجيب أحد لطلبه، كما أن مجلس الإنماء والإعمار المؤسسة التابعة لرئاسة الحكومة والموكل إليها الإشراف على تنفيذ المشاريع الكبرى، رفض منح اتحاد البلديات (الجهة المستفيدة) صلاحية الرقابة على تنفيذ الشركة لمهامها. وفق غزال.

مخاطر صحية وأضرار ممتدة

يتجلى أثر التلوث في ارتفاع نسب السرطان في لبنان، كما بين التقرير الصادر في 2018 عن الوكالة الدولية لأبحاث السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية، أن هناك 242 مصابا بالسرطان بين كل 100 ألف لبناني، وسجلت 8976 وفاة بسبب السرطان في لبنان عام 2018.

وتتضاعف مخاطر الفيروسات الموجودة في العصارة غير المعالجة عندما تبلغ ماء البحر، بحسب الأستاذ في كلية الصحة بالجامعة اللبنانية عماد القصعة، مؤكدا أن الاعتقاد بأن البحر مطهّر بذاته خاطئ، لأن نسبة ملوحة البحر 16% وهي قاتلة لمعظم أنواع الجراثيم، لكن هناك أنواعا كثيرة من الفيروسات والطفيليات تتحمل هذه الكثافة. كما أن سيلان مياه النهر إلى البحر يقلل نسبة ملوحته بنسبة تتراوح بين 8% و10%.

وتزداد الخطورة في جوف الأرض بسبب تسرب العصارة الناتج عن عدم وجود طبقة عازلة، وتزداد كميات الكربون والملوحة ما يقتل البكتيريا النافعة، ويمتد الضرر إلى الأرض في محيط المكب لأنها أصبحت غير صالحة لأي من أنواع الزراعة.

لبنان6

وتوضح الباحثة ديما مرعبي، والتي شغلت منصب مسؤولة البيئة والصحة والسلامة في مرفأ طرابلس المحاذي للمكب منذ عام 2012 إلى 2017، أن العصارة تلوث البحر بخليط من المركبات العضوية، ومواد كلورية، ومركبات المشتقات النفطية، بالإضافة إلى وجود معادن ثقيلة مثل الألمنيوم، الرصاص، الكادميوم، والزنك. وهي مواد لا تتحلل بصورة طبيعية وسريعة، بل تتراكم عبر الزمن في جسم الكائنات البحرية ما يحوّل السمك إلى سلعة سامة يمكن أن تقتل الإنسان بصورة مباشرة في حال تعرضه لها بصورة مكررة، أو تهدده بالانقراض.

كما تأثرت الحياة البحرية بالعصارة المتدفقة من جبل النفايات، إذ لاحظ الصيادون فرقا كبيرا بين المرحلة السابقة حتى عام 2005، عندما بدأت طرابلس تستقبل نفايات الأقضية الأخرى وازدادت العصارة المتدفقة. ويروي الصياد طارق مجانيني لـ"العربي الجديد" أنهم كانوا يصطادون سمك المرمور، الفيران، البطريز البلدي، أبو شوكة الذي يصل وزن إحداها إلى 2 كيلوغرام، هذه الأنواع لم يعد يراها الصيادون في المنطقة المحيطة للمكب.

ولاحظ مجانيني أن مياه البحر يزداد تعكرها وتلوثها، وبات يعجز الصياد عن رؤية الأعماق من أجل وضع الشباك والأقفاص، والأمر نفسه ينطبق على الغطاسين.