جولة داخل "بيت الملكة" في لندن: الهندسة الساحرة

جولة داخل "بيت الملكة" في لندن: الهندسة الساحرة

08 أكتوبر 2016
بيت الملكة من الخارج (العربي الجديد)
+ الخط -
يعود "بيت الملكة"، المنتصب في غرينيتش شرق مدينة لندن منذ القرن السابع عشر، ليفتح أبوابه للعامّة في 11 أكتوبر/ تشرين الأوّل هذا العام، بعد أن أغلق في يوليو/تموزعام 2015، وذلك لإجراء بعض أعمال التجديد، تحضيراً للاحتفال بذكرى مرور 400 عام على بنائه. ويضفي ريتشارد وايت، الفائز بجائزة "تيرنر" وأحد أهمّ الفنانين البريطانيين، لمساته على سقوف غرف البيت، وهي المرّة الأولى التي يسمح فيها بإدخال تعديلات عليها منذ أربعة قرون. يعود سبب بناء البيت إلى الملك، جيمس الأوّل، الذي حكم من عام 1603 حتى عام 1625، وذلك بعد أن فقد أعصابه، وأهان زوجته، آن، أمام الملأ، لأنّها أردت أحد كلابه المفضّلة قتيلاً عن غير قصد، حين كانت تصطاد في عام 1614، فقدّمه كهديّة اعتذار لها.
كانت الملكة، آن، مولعة بالفن فكلّفت، إنيغو جونز، (1573 – 1652)، مصمّم البناء الشهير آنذاك، بتصميم الجناح الجديد لها في غرينيتش. وكان ذلك البناء الكلاسيكي الكامل الأوّل في بريطانيا، والذي يعرف بأسلوب الـ"باللادين".
بيد أنّ الملكة آن، لم تسكنه. وكان مجرّد مكان لإقامة الحفلات أو إمضاء الإجازات الخاصّة والضيافة. واستخدِم أيضاً كجسر عبور من غرينيتش إلى شارع وولويتش، بين حدائق القصر والحديقة الملكية. وحين مرضت آن، في أبريل/نيسان عام 1618، توقف العمل في البيت، وتوفيت هي في العام التالي.
مرّت عشرة أعوام، قبل أن يبدأ إكمال بناء البيت من جديد، وذلك حين قرّر جيمس، ابن تشارلز الأوّل، تقديمه لملكته هنرييتا ماريا، ابنة الملك الفرنسي، هنري الرابع، في عام 1629. وانتهى بناؤه في عام 1635. تصميم "بيت الملكة"، كان بمثابة ثورة في عالم الهندسة البنائية في بريطانيا آنذاك، إذ كانت أفضل المباني لا تزال مغطاة بالقرميد الأحمر على نمط أسلوب تيودور.
مجرّد التفكير ببيت ملكي، قد يأخذنا إلى عوالم من الخيال، حيث القصور الضخمة والمساحات الشاسعة، بيد أنّ "بيت الملكة" الذي يتوسّط مساحات خضراء شاسعة، بدا أصغر من تلك التوقّعات. كان أشبه بفيلّا تاريخية ساحرة، تحيط بشرفتها أدراج لولبية الشكل من الجانبين، تثير الخيال لمشهد ملكة تقف هناك بثوبها المزركش، وتاجها المرصّع بالماس، لتضفي سحراً على المكان. الشوق كان في الدخول إلى ذلك المكان، واكتشاف تلك الغرف والممرّات واحدة تلو الأخرى، بحثاً عن أسرار الملوك والملكات، قاعاتهم، غرف جلوسهم، وغرف نومهم.
لا تحتاج "القاعة العظمى" إلى خبراء ليدركوا فرادة هندستها التي عمل عليها جونز، وأي شخص يقف هناك قد يسرح متأمّلاً بسقفها وأرضها، حيث دمج جونز الرّخام الإيطالي الأبيض والبلجيكي أسود اللون، بأشكال هندسية متناسقة وجاذبة للنظر. وتعتبر تلك القاعة قلب البيت التي تجسّد نهج تصميمات جونز للكمال الفني والهندسي. وإلى يمينها، لا يزال الدرج المركزي اللولبي الأوّل من نوعه في بريطانيا صامداً، حيث علّقت على الحائط بمحاذاته أضواء مستديرة الشكل وبسيطة.
انتقلنا من غرفة إلى أخرى، وعلى جدار كل منها طبعت فقرة تشرح عنها، وعلقّت لوحات لمشاهير الفنّانين الذين رسموا ملوكاً وملكات وشخصيات معروفة وأحداثاً تاريخية ومناظر طبيعية وغيرها.
وفي إحدى غرف البيت، تربّعت كريستينا، وهي فتاة إنكليزية في السابعة من عمرها، على الأرض، مرتدية ثوباً يعود إلى القرن الثامن عشر، وتاجاً صغيراً. بدت كريستينا متحمّسة للإجابة عن سبب تواجدها في المكان، وبابتسامتها البريئة، أخبرتني أنّها تتهيّأ للاحتفال بذكرى مرور 400 عام على "بيت الملكة". رسم سقوف الغرف وصمّمها أهم رسّامي وفنّاني ذلك الزمن.
طغى اللونان الأزرق والذهبي على غرفة الملك، التي لم تستخدم على الإطلاق من قبل أي ملك، لكنّها استقبلت العديد من الشخصيات الرّسمية منذ عام 1664، إلى أن أصبحت غرفة حاكم مستشفى غرينيتش للبحارين في عام 1710. أمّا غرفة الملكة فغلب عليها اللون الأرجواني، وغطّت سقفها رسومات ملائكية. وعلقت على جدرانها لوحة للملك وزوجته هنرييتا ماريا، التي أظهرت صور الأشعة أنّها كانت تحدّق به، بيد أنّ الملك طلب تعديلها لتشيح بنظرها عنه.
لم يتسنّ لهنرييتا الاستمتاع بالمنزل هي الأخرى سوى لمدّة وجيزة، وذلك بسبب اندلاع الحرب الأهلية في عام 1642، ونفيها إلى فرنسا، وقطع رأس زوجها تشارلز في عام 1649، والسيطرة على ممتلكاته وتوزيعها من قبل نظام الكومنولث. ضاعت كنوز "بيت الملكة"، وأصبح المقر الرّسمي للحكومة، ولكنّه نجا من الدمار، في وقت انهارَ فيه قصر تيودور على الجهة المحاذية للنهر.
وفي عام 1660، استعاد الملك، تشارلز الثاني، ابن الملكة، هنرييتا ماريا العرش، وأصلح المنزل لتسكنه والدته بشكل مؤقّت إلى أن انتقلت إلى منزل سمرست في عام 1662، وتوفيت في باريس عام 1669.
ومنذ عام 1673، خُصّصت مساحة استوديو في البيت، لعائلة وليم فان دي فيلد، حيث أقام فيه أب وابنه، وكانا فنّاني بحرية هولنديين، قدما إلى بريطانيا بدعوة من الملك تشارلز، وأسّسا المدرسة الإنكليزية للرسوم البحرية.
وفي القرن التاسع عشر، منح جورج الثالث البيت إلى خيرية اللجوء الملكية البحرية، التي تهتم وتدرّس أطفال البحّارين اليتامى. ومنذ عام 2001، أعيد تنظيم "بيت الملكة" لعرض التحف الفنية الجميلة، مع برنامج مستمرّ من العروض المؤقتة. ويشكّل "بيت الملكة" جزءاً من متاحف غرينيتش الملكية، وهو نصب قديم فريد في هندسته، وسمة أساسية من مواقع التراث العالمي لليونسكو البحرية غرينيتش.



دلالات

المساهمون