ليلة "الحضرة"

ليلة "الحضرة"

14 يونيو 2015
من طقوس احتفال الزاوية العيساوية
+ الخط -
هنا الزاوية العيساوية بالصويرة في المغرب، حيث تقام دورة جديدة من مهرجان كناوة وموسيقى العالم السنوي. وخلال أيام المهرجان تتبدل حال الصويرة الوديعة، وتتحول إلى مدينة مجذوبة كالدراويش. يقصدها الكناويون من عشاق موسيقى كناوة الشهيرة من كل المغرب وأفريقيا والعالم، يسكنهم عالم خاص يلتقي فيه الديني بالإثني والصوفي وروح الشارع.

ضريح وبخور وجنون
الزوايا تحمل دائماً اسم ولي من أولياء الله الصالحين وضريحه. ويستمر الناس في الإيمان ببركة أعمالهم حتى وهم تحت التراب، برأيهم إن انقطع أثرهم من الدنيا لا ينقطع تأثيرهم على الخلق!

وفي مناطق مختلفة من المغرب هناك زوايا باسم "عيساوة" نسبة إلى الولي الهادي بنعيسى ساكن مكناس المغربية والملقب بالشيخ الكامل. إنهم كما الطائفة ينتمون إلى ولي ويعيشون ببركة اسمه، يتعبدون الله ويمدحون الرسول ويدعون بالخير والرحمات وقضاء الحوائج للعباد، لكن لا تتوقف الأمور عند هذا الحد بل تتجاوزه إلى طقوس تعبدية تمنح المريدين سلام أرواحهم وتضعهم على طريق العرفانية، هكذا يقولون. وتتجاوزه بالانتقال من مدح الخالق والرسول إلى مدح الولي.

الزاوية العيساوية في الصويرة، عبارة عن رياض بني على طراز البيوت المغربية التقليدية في المدن العتيقة، تختلف بها تفاصيل صغيرة تبقى خاصة بموكادور (الاسم القديم لمدينة الصويرة) كالأقواس الرملية الصخرية التي تميز عمران المدينة، وتظلل الخروج من الغرف الكبيرة إلى فناء الرياض. ولأنها ليلة "الحضرة" أي ليلة المديح على الطريقة العيساوية، فالفناء الواسع مفروش بالبسط والوسائد ومزين بالأعلام فاقعة الألوان وأبرزها الأخضر، المرتبط في الذاكرة الشعبية المغربية بالخير والكرامات، حتى إنه كلما ذكر ولي فكرت باللون الأخضر، وكلما حلم شخص به أو براحل عزيز تبدى له بالأخضر أو محاطا بالخضرة، وهو اللون الذي يرافق الأولياء إلى قبورهم، فجميعها مكفنة به في أضرحتهم.


وفي أقصى الفناء أمام غرفة مطلي بابها الموصد بالأحمر والأخضر، أخذ أعضاء فرقة المديح الكناويون مواضعهم، جلوسا على الأرض يتوسطهم "المعلم" يحمل "الهجهوج أو الكنبري" ويحمل البقية "القراقب"؛ وجميعها آلات موسيقية خاصة بفن كناوة. ألبستهم مزركشة وطاقيات رؤوسهم مزينة بالعاج الأفريقي، مفتول طرفها كالضفيرة الأفريقية.

وأمام المعلم وضعت صينية نحاسية تتوسطها مبخرة، وضع فيها "الجاوي وصالابان"؛ نوعان من البخور يدخلان في الموروث الديني والصوفي المغربي دلالة على الطيب، وفي الموروث الشعبي استحضارا للماورائيات فكما يصلح هذان البخوران للتطيب يصلحان أيضا للسحر، تقول السيدة فضيلة (57 عاماً) التي أتت لأجل الحضرة لـ "العربي الجديد"، "الجاوي بالأخص الجاوي المكي وصالابان، يهيجان المجذوبين ويحيرونهم" و"التحييرة" كلمة باللهجة المغربية تحيل إلى حالة من اللاوعي والذهول، إلا عن التوحد مع الروح في عالم خاص بما أو من يولج إليه، ويقوم صاحب الحالة بحركات غريبة ومتسارعة، تتحشرج فيها أنفاسه، وتصدر عنه أصوات غريبة في وضع لا يمكن أن يوصف إلا بالجانح والجنوني. هنا في هذه الزاوية كلية جامعة للديني والصوفي والشعبي، تتوجس منها وتخشعك وتجعلك تحس نفسك عالقة في معبر إلى اللامرئيات والغيبيات بالأخص، وفناء الزاوية مفتوح على سماء عريضة يوهمك البخور والجنون حولك والليل أنها "مغيرة الحال"!

"مالين الحال" و"الأجواد"
بين العشرات الذين كانوا يحضرون ليلة الحضرة، يحركون رؤوسهم يمنة ويسرة كالمأخوذ، أو صامتون كمن يخزن في داخله التفاصيل حوله أو يحاور نفسه في مونولوج ذاتي، لفتت انتباهي ثلاث حالات.

كان معلم الفرقة قد بدأ يرفع إيقاع الأغنية، جمل نداء كـ "آمولاي أحمد" تتردد أكثر من غيرها وتعلو. ومن الجهة المقابلة للمعلم قدم رجل يبدو على أعتاب الستين عاماً، يلبس جلباباً صوفياً أبيض، ويلقي على رأسه غطاء شفيفا بذات اللون. وقف بالضبط عند المبخرة أمام الفرقة وبدأ يرقص، ولأن الفعل باللغة العربية لا يفي الوضع حقه، فكلمتا "يتحير ويجذب" باللهجة المغربية الأكثر دقة والأشد وصفا له. كان قد دخل عالمه الخاص، يشتم "الجاوي وصالابان" ويتحرك على إيقاع الأغنية، كلما ارتفع صارت حركاته أكثر قوة، ولعشرين دقيقة تقريبا ظل ذاهلا على هذه الحال إلى أن انتهت الأغنية وتوقف العزف، حينها أتى من يصحبه إلى مكان جلوسه خائر القوى.

إقرأ أيضاً: أغاني "المداحين"

قريباً من الفرقة الكناوية، كانت تجلس فتاة جميلة تبدو في منتصف العشرينيات من عمرها. تكلم بين الحين والآخر صاحبتين لها، وتصفق بيديها كلما قوي "انتشاؤها" بما تسمع. لا يمكن أن تفكر عندما تراها أنها "مجذوبة" أو "فيها الحال" هذه الجملة التي تحيل في اللهجة المغربية إلى أصحاب المس أو الدراويش أصحاب الكرامات والنيات الطيبة في سذاجة، الذين يغدون من "مالين الحال" أي أصحابه، في حين يسمى الجن الذين يسكنونهم إذا كانوا مصابين بالمس، أو الأولياء الذين يخضعون لتأثيرهم بـ "الأجواد" وهي التسمية التي تحمل في العرف القبول أو الإيمان بالبركة والتميز والجود واليمن أكثر مما تحمل الخوف!

عندما بدأ معلم الفرقة يغني عن ولي اسمه "بابا ميمون"، ويردد لازمة "بابا ميمون جا يداوي قلوبكم" هبت الفتاة كالمصعوقة "تتحير". تضرب الهواء بذراعيها يمينا ويسارا بينما رأسها يدور في غير مستقر، كان فمها مفتوحا وتصدر حشرجة ذاهلة، رجولي صوتها أكثر منه نسائي.

إقرأ أيضاً: موسم الحناء المغربية

حالة ثالثة كانت لفتاة أصغر سنا من السابقة، كانت مراهقة صغيرة. كلما قال معلم الفرقة "الله يعفو على العباد" رفعت يدها إلى الأعلى مبسوطة في سلام، كأنها تشير إلى أحد بعينه، شفتاها تنبسان دون صوت وعالقة عليهما ابتسامة امتدت إلى عينيها، ابتسامة وعينان مسالمتان سابحتان في هدوء لا يهزه إلا وقوفها بين الحين والآخر لترقص، حتى رقصها ليس كالبقية، لقد كانت كمن يخاطب نفسه ويهتز في تلويح لآخرين لا نراهم، في استسلام وطمأنينة وفرح باد عجيب.

بين الدين والطب هناك السوسيولوجيا
عندما تجلس بين صفوف مريدي الحضرة وأولياء الزوايا، وترى الخليط المتناقض بين الديني والإثني والصوفي، لا بد أن تطرح أسئلة من قبيل ما الذي يقوله الإسلام عن هذه الحال؟ وهل تدخل موالاة الأولياء والصالحين والتقرب إليهم على حال الحضرة ضمن خانة الشرك بالله؟
يقول عبد الله الدمسيري، الأستاذ الباحث في الدراسات الإسلامية، لـ "العربي الجديد" "أي نشاط أو احتفال كيفما كان نوعه، سواء بالزوايا أو خارجها، المفروض فيه مراعاة القيم الإسلامية، وكل ما خرج عنها يكون غير مشروع".

ولأن مفهوم القيم شامل والممارسات داخل الزوايا بالأخص تنطلق مما هو ديني، يعود الدمسيري ليقول إن "الحضرة التي تقام لأجل مدح الله والرسول وذكرهما مستحبة، لكن عندما تجنح الأمور إلى اعتقاد النفع والضر المحض منه فقط، فذلك مما لا ينسجم مع القيم الإسلامية التي تقول إنه لا يمكن بأي حال تقديس غير المقدس، والله هو المقدس"، مذكراً أن أولياء الله الصالحين يجوز الترحم عليهم وذكر فضائلهم، وبأن "الزوايا رباطات واجبها الأساسي هو التوعية والتوجيه الراقي والتقويم السليم لسلوك المسلمين".

المساهمون