محمود سليمان لـ"العربي الجديد": ألعبُ بالزمن... والمُشاهدون شركاء لي

محمود سليمان لـ"العربي الجديد": ألعبُ بالزمن... والمُشاهدون شركاء لي

21 مارس 2018
(فيسبوك)
+ الخط -
يخوض "أبدًا لم نكن أطفالاً" للمصري محمود سليمان مغامرة تقفّي أثر حياة عائلة مصرية هشّة (أمّ و4 أبناء، هجرهم أب مدمن ومستهتر) في 13 عامًا. 
كيف انبثقت فكرة الفيلم في البداية؟
ـ عام 2003، أنجزت فيلمًا قصيرًا بعنوان "يعيشون بيننا"، مع الأسرة نفسها. بعدها، ظلّت علاقتي بها قائمة، بلقاءات واتصالات، فنمت العلاقة الإنسانية بيننا، لغاية عام 2011. في الفترة هذه (2003 ـ2011)، بدأت تتغيّر الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مصر، وتحصل تطوّرات مفاجئة وحادّة، وتغيّرات موازية كبيرة في الشخصيات أيضًا. على مستوى السنّ، بات الأطفال الصغار (2003) يافعين وشبابًا (2011). كلّ واحد منهم أصبحت لديه شخصية مستقلّة، ومشاكل معيّنة. بدأت أفكّر في جزءٍ ثانٍ، أو في إنجاز فيلم جديد عن الأسرة نفسها. بدأت التصوير عام 2011. حصلت الثورة (25 يناير)، التي شارك أعضاء الأسرة فيها، فأصبحت خطًا رئيسيًا في الحكي. ظللت أصوّر وأتابع الشخصيات والأحداث، إلى أن بلغت مرحلة شعرتُ فيها أنه يُمكنني إنهاء الفيلم.

ما هو، بالضّبط، العامل الذي حسم قرار استئناف التصوير مع الأسرة؟ أهي الثورة؟
ـ الثّورة، وغيرها. عندما بدأت التصوير، كانت خطّتي أنّ العملية ستكون مضبوطة ومنظّمة. يعني: التصوير 15 يومًا، بميزانية محدّدة. لكن، عندما بدأت تحصل متغيّرات متلاحقة، نمى لدي إحساس، مع مضيّ الوقت، أني لم أعثر على نهاية ملائمة. لم يكن هناك حدث بارز يمكن التوقف عنده. الأحداث السياسية عامل رئيسي في هذا الجانب. لكن، هناك أيضًا الأحداث المتعلّقة بكلّ شخصية على حدة، إذْ شهدت حياة كلّ فرد تطوّرات مطّردة على مستوى الوظيفة التي يشغلها، ما أثّر على الحالتين الاجتماعية والاقتصادية. متغيّرات جعلتني أحسّ أن الفيلم لا يزال مفتوحًا.

الفيلم يفكّر على مستوى الحالة الإنسانية التي تمثّلها الأسرة. كان سيبقى على القوّة نفسها، حتى في غياب المشاهد المتعلّقة بالثورة، التي استأثرت باهتمام البعض في قراءته الفيلم. هل لديك الإحساس نفسه؟
ـ بالضبط. لو لم تحصل الثورة، لبقي الفيلم قائمًا بذاته، ولما فَقَد شيئًا من قوّته. لكن الثورة حصلت، ولا يمكن الانفصال عنها. تطوَّر تصوّري للفيلم منذ تفكيري بمباشرة التصوير، وطيلة الأعوام الـ5 التي استغرقها. بما في ذلك فكرته، التي تغيّرت وتبلورت أكثر من مرّة. عندما حصلت الثورة، لم يكن ممكنًا تحاشيها. من ضمن التطّورات المهمة، أن الفيلم بات عن آخر 13 عامًا في تاريخ البلد، وهي الأكثر اشتعالاً في العصر الحديث لمصر. أي آخر 10 أعوام من حكم الرئيس السابق حسني مبارك، ثم قيام ثورة 25 يناير، والحلم الذي راود المصريين معها بالارتقاء في المستويات كلّها، ثم التخبّط الذي لا نزال نعيشه إلى اليوم.
أصبح الموضوع أعمق من فيلم عن أسرة، لأنه بات يتطرّق إلى حقبة زمنية أقدم، حوّلها إلى شهادة للتاريخ، موثّقًا الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السائدة.


تعتمد غالبية الأفلام الوثائقية على مشاهد يكون زمن الحكي فيها مساويًا أو قريبًا من زمن المشهد (فلا يكون هناك قطع كثير داخل المشهد). مونتاج فيلمك يذهب عكس هذا التوجّه، مُشكّلاً بنظري اختيارًا موفّقًا، لأن القطع الكثير، حين يتزاوج أسلوبيًا مع الزمن الطويل للقصة (أكثر من عقد)، يفضي إلى تباين جمالي، هو في النهاية أحد أبرز أسرار جاذبية إيقاع الفيلم.
ـ نعم. كيفية اشتغالك على موضوع ما، وشكل العمل، أمران يفرضهما الموضوع نفسه. خصوصًا عندما يتعلّق الأمر بالفيلم الوثائقي. فالأمور فيه لا تكون معدّة سلفًا بنسبة كبيرة، كحال الفيلم الروائي، فتقع مفاجآت، ويحصل تطوّر في السيناريو والقصّة والأحداث.
الشكل الفني الذي أخذه الفيلم مختلف عن شكل الفيلم القصير الأصلي. عام 2003، كانت الأمور أكثر رومنطيقية، رغم معاناة الأسرة. كفاح الأمّ من أجل أطفالها، الذين كانوا تابعين ومطيعين لها، أضفى شكلاً من أشكال الرومنطيقية على العمل. حتّى الحوارات كادت ألاّ تكون موجودة.
عندما بدأت تحقيق "أبدًا لم نكن أطفالاً"، تغيّر الموضوع تمامًا، وأصبح أحدّ وأقسى من السابق. أصبح هناك نوع من التماهي مع خشونة الشارع والواقع وقبح الأوضاع والتلوّث السائد في المجتمع، بصريًا وسمعيًا وجماليًا. هذا التماهي أفضى إلى حدّة أكبر، أدّت إلى قطع أكثر، أو ما يسمى "القطع الخشن". خلال تسجيل الحوار، أرغب في استرسال الشخصية في كلامها، فلا أقاطعها كثيرًا. في المونتاج، أصرّ على ألاّ آخذ من حديثها سوى ما يهمّني، فأجبر على القطع. شكل الإيقاع فرضه، في الدرجة الأولى، الموضوع، والتماهي مع المحيط والواقع الذي تعيشه الشخصيات.
علينا ألاّ ننسى أن الفيلم يقدِّم قاهرة أخرى، أي الشوارع والحياة الخلفية التي تسود في المدينة، والتي لا نراها كثيرًا في الإعلام، وبالذات في السينما.

هناك مشهد في الفيلم استبقت به ذلك النوع من اللّغط الذي يُتّهم المخرجون به عادة: التركيز على القبح والجوانب السلبية فقط، عندما أوردت سجالاً بينك وبين إحدى شخصيات الشارع، حول هذا الموضوع.
ـ نظرًا إلى أني صوّرت في 55 يومًا، خلال 5 أعوام تقريبًا، وإلى أن معظم الفيلم يجري في الشارع، لأن ليس هناك مأوى ثابت للأسرة، فقد تعرّضت، طول الوقت، لتساؤلات الناس. هذه ثقافة سائدة في المجتمع، للأسف. تكون بصدد التصوير، فيسألك أحدهم، بكلّ وقاحة: "ماذا تصوّر هنا؟". أصبح عاديًا، بالنسبة إلينا، أن يأتي شخص كالذي شاهدته في الفيلم، ويصرخ: "أنتم تشوّهون سمعة مصر"، أو "بذمّتكم، هذه مناظر تعرضونها؟". في إحدى المرات، طلبت صحافية ـ تقطن بالقرب من منطقة كنا نصوّر فيها ـ الشرطة. أتى شرطيون، وأوقفوا التصوير، وطرحوا علينا أسئلة.
لم تكن لدي نيّة مسبقة لإدراج مشهد السجال. لكن تكراره معنا يوميًا، تقريبًا، وهو سمة من سمات المجتمع، لم يعد ينفع أن أغضّ عنه البصر. عادةً، تُحذَف هذه المشاهد بشكل أوتوماتيكي أثناء المونتاج. في التصوير، لم أكن متأكّدًا مما تلتقطه الكاميرا، لأني مأخوذٌ بالسجال. بعدها، زرتُ الشخص نفسه، وسجلت معه المشهد التالي، حيث تناقشنا بهدوء أكبر.
هذه من نتائج الخوف من الآخر، والتدخّل الدائم في شؤونه، وثقافة الرعب من الكاميرا، التي تفاقمت مع التطوّر التكنولوجي الحاصل، إذ باتت الكاميرا متاحة للاستعمال أكثر في الجانب الفضائحي، وعلى "إنترنت"، فاختلط ـ لدى الناس ـ الفنّي بالفضائحي، والحقيقي بالمزوَّر، وأصبحوا يخافون الكاميرا.

هناك أيضا جانب مهمّ، يرتبط بالنفاق الاجتماعي السائد في جزء كبير من المجتمعات العربية، الذي رصدت جذوره بشكل غير مباشر في الحوار مع الأبناء الـ4، حول التديّن والجانب الروحي بصفة عامة. هل كنت مدركًا أهمية التطّرق إلى هذا مسبقًا، أم جاءت الأمور عفويًا؟
ـ مرّة أخرى، أعود إلى طبيعة الفيلم، وإنتاجه. هناك فترة معايشة كبيرة لهؤلاء الناس، أدّت إلى نوع من الألفة والثّقة، تجعلك قادرًا على طرح مواضيع حساسة، أو "تابو"، يصعب طرحها مع أيّ كان أمام الكاميرا. أن تمضي 13 عامًا مع شخص، هذا يعني أن تعرف بالضرورة كيفية تفكيره ورؤيته الأمور وعلاقته بخالقه، متى يتذكره ومتى ينساه. تحوّل التديّن ـ ليس فقط بالنسبة إلى الطبقة المهمّشة، بل الطبقات كلّها ـ إلى شكل من أشكال المظهر الاجتماعي، وأصبح هناك خلط بين الدين والعادات والتقاليد.
بالنسبة إليّ، هذا مهمّ جدًا، لأنه نتاج تراكمات وتلقّ خاطئ، أفضى إلى تديّن يرتبط بالمظاهر والعبادات السهلة، ويغفل الأخلاق، وهي الجوهر، لأنها ليست يسيرة.
هذه عظمة الفيلم الوثائقي، التي لا يدركها معظم الناس: المساحة ـ التي يمنحها لك لسبر أغوار الإنسان والمجتمع ـ كبيرة، وتفوق ـ بأشواط ـ الفيلم التخييلي.
لكن، للأسف، لا تزال الفكرة السائدة في مجتمعاتنا أن الوثائقي مملّ، أو موجّه إلى موضوع معين حول صناعة ما، أو ظاهرة محدّدة، ما يُعيق اقتحام التوثيق غياهب الإنسان. فتصبح غالبية الأفلام غير مثيرة للاهتمام، ما يؤدّي إلى نفور الجمهور منها.



كم كان عدد ساعات المادّة التي صوّرتها؟
ـ رغم أني صوّرت أيامًا كثيرة بشكل عام، إلاّ أني كنت حريصًا على ألا أنسى نفسي أثناء التصوير، وأتذكّر دائمًا أني سأعمل مونتاجًا لما صوّرته. لذا، من الأفضل تجنّب الضغط والحيرة الناتجين من كثرة المادة المصوّرة.
هذا أسلوبي في العمل. هناك مخرجون يصوّرون كما يتنفّسون. أحدهم يصوّر 15 يومًا مثلاً، فيجد نفسه أمام مادّة تحتوي على 100 أو 200 ساعة تصوير، أو أكثر. لم أعد أذكر بالضبط عدد الساعات التي صوّرتها، لكن أعتقد أني، مقارنة مع عدد أيام التصوير، المرتفع نسبيًا، صوّرت عدد ساعات يُعتَبر معقولاً بمقاييس المونتاج. فلو تركتُ الكاميرا مشتغلة، كما يفعل البعض، كان يُمكن أن أصل، بالنسبة إلى 55 يوم تصوير، إلى ما بين 500 و700 ساعة، مثلاً. العدد النهائي كان أقلّ من هذا بكثير.

وما العامل الذي كان يحكم في ما كنت تترك وتزيل أثناء المونتاج؟
ـ التطوّر. كنتُ أصوّر فترات متقطّعة، وأعمل على المونتاج بالتّوازي مع هذه الفترات. عام 2012، بلغت مدّة المادّة المُوَلّفة المدّة النهائية للفيلم، أي 99 دقيقة. لكن، كلّما كان يحصل تطوّر ما، وأصوّره، ويمرّ وقت معيّن، كنت أقول لنفسي: "الأشياء التي وضعتَها في الفيلم، التي كانت تبدو لك قوية، أصبحت ضعيفة، مقارنة مع ما صوّرته أخيرًا".
يتفوّق الواقع على الخيال في قدرته على إدهاشنا. كانت هناك تفاصيل مثيرة تُضاف كلّ مرة. يتعلّق الأمر بتغيّر ثقة الشخصية بنفسها وخياراتها، أو ثقتها بالثورة مثلاً، وقدرتها على تحقيق وعودها. كلّ مرة، كنتُ أعوّض أشياء وتفاصيل قديمة، بتلك الجديدة. هذه تجربة شاقّة وممتعة، في الوقت نفسه.

في مونتاج الفيلم، هناك اختيار رائع: العودة، بين حين وآخر، إلى مشهد التئام الأطفال، وهم صغار، حول أمّهم، لتناول وجبة الغذاء بجانب حديقة عمومية، من دون أن تورد ملاحظة على الشاشة توضح تاريخ المشهد. ثم تذهب إلى فترات متقدّمة من القصة، بين عامي 2011 و2015، من دون إشارة إلى التاريخ، أيضًا. ألم يكن لديك، في البداية، تخوّف من الإقدام على قرار كهذا يستلزم ثقة كبيرة في قدراتك، وفي فيلمك؟
ـ وفي الجمهور. طبعًا، لديّ تخوّف طول الوقت، لأننا نتكلم عن 13 عامًا، تتخلّلها أحداث تاريخية مهمة جدًا. ثم مسألة الأبناء الذين كانوا صغارًا ثم صاروا يافعين وشبابًا. أنا مفتون بلعبة الزمن. الجانب المتعلق بالتخييل في الحياة الواقعية يروقني كثيرًا، حتى في الأدب. أنا في الأصل كاتب، قبل أن أكون سينمائيًا. لديّ 3 مجموعات قصصية. يسحرني فعل الزمن في الأدب والفن، حتى في الحياة. أجدني أجلس لأتأمّله بدهشة الأطفال.
أثناء تفكيري في الفيلم، كانت تواجهني مشكلة: هل أتبع تسلسل الزمن بشكل مطلق، أم "ألعب" بالزمن؟ في النهاية، قرّرت أن أمزج الأسلوبين معًا، فبدأت بفترة 2003، لتعريف المشاهد على هؤلاء الناس، ومن أين أتوا، وما هي خلفياتهم؛ حتى ماضي الأم وهي طفلة، وكيفية نشأتها. بعدها، دخلت إلى واقع الشخصيات وعيشها الصّعب. في منتصف الفيلم، قرّرت العودة إلى 2003، من دون إشارة إلى التاريخ، لأن هناك معرفة سابقة بين المُشاهد والأجواء بشكل عام من جهة، ولأني أحبّ دائمًا إشراك المشاهدين في عملي، حتى الروائي، من جهة ثانية. في الفنّ، لا ينفع إعطاء كل شيء من عندك دفعة واحدة. ينبغي أن تحدث الأمور تدريجيًا.
لا مشكلة في أن يجلس المُشاهد ربع ساعة مثلاً من دون أن يعرف علاقات القربى بين الشخصيات، أو أيّ تفصيل من هذا القبيل. في الوقت المناسب، سيعرف، إن كانت تتوفّر لديه، فعلاً، إرادة لمشاهدة الفيلم، أو لا. بعض المخرجين يكشف أوراقه كلّها في الدقائق الأولى، فتجده يريد قول كلّ شيء دفعة واحدة، حتى لا يرتبك فهم المُشاهد. يا سيدي، فليرتبك لبضع دقائق؛ أين المشكلة في هذا؟ المهم أن تجمع الخيوط كلّها في نهاية الفيلم.
مثلاً، في الفيلم القصير، لم تكن الابنة حاضرة، لأنّها لم تولد حينها بعد. مع توالي الأحداث، نكتشف أن الأولاد الـ3 هم الأطفال وقد كبروا. لكن، من هي هذه الفتاة التي ظهرت فجأة؟ كُنْ صبورًا، وستعرف. كان يُمكن أن أعرفّك عليها منذ الوهلة الأولى، لكني أفضّل أن يتمّ الأمر بشكل تدريجي ومتمهّل. نحن لسنا في مدرسة، ولا بصدد تلقٍّ سلبي. أنا أنتظر من الجمهور أن يتخيّل، حتى ما لا أعطيه. أحيانًا، تجلس مع مُشاهد أو ناقد، فتسمع أشياء أنت نفسك لم تتخيّلها. أفضّل أن يكون الجمهور شريكًا لي. لهذا، أحبّذ أن ألعب، نوعًا ما، بالزمن، وفق اتفاق ضمني مع المُشاهد، لا وفق ترتيب مدرسي مُملّ، وغير مثير للاهتمام.

المساهمون