طلال ديركي: البحث الإنساني في أشد الأمكِنة ظُلمة

طلال ديركي: البحث الإنساني في أشد الأمكِنة ظُلمة

21 مارس 2018
المخرج السوري طلال ديركي (Getty)
+ الخط -
حاز المخرج السوري، طلال ديركي، عن فيلمه الوثائقي الأخير "عن الآباء والأبناء" إنتاج 2018 جائزة أفضل مُخرج في مهرجان "العالم الواحد" الذي أقام دورته العشرين في العاصمة التشيكية براغ مطلع الأسبوع الماضي. ويركز المهرجان على الأفلام الوثائقية التي تُعنى بحقوق الإنسان، ويُعد أكبر مهرجان في العالم من هذا النوع.

وقد حاز ديركي قبل ذلك جائزة التحكيم في مهرجان "سن دانس" السينمائي عن نفس الفيلم، وجائزة الجمهور في مهرجان "سالونيكي" الوثائقي في اليونان. وكان ديركي قد غادر في رحلة محفوفة بالخطر، لِيُصور جيل الأطفال الذي ينمو تحت سيطرة "جبهة النصرة" في إدلب وأطرافها، حيث يتم تمرين الصِّبية منذ نعومة أظفارهم على حمل السلاح، وممارسة طقوس معينة تجعل منهم جنوداً مُسيرين.

استمر طلال بالتصوير مدة عامين ونصف تقريباً، حيث عايش أدق اللحظات حميمية بين الآباء والأبناء في ذلك العالم الآخر، وتمكن من نقل مشاعر الأطفال الحقيقية تجاه ما يجري، ورغبتهم في الانعتاق من التنظيمات العسكرية وتَوقهم للعب والمرح، وحتى إلى تناول الطعام كما يشتهون، ولكن أحلامهم يتم وأدها قبل أن تنضج، ويحل محلها حزن ثقيل، وغضب قاتم.
يقول طلال ديركي لـ "العربي الجديد": "لاحظتُ أن جميع المقاطع المُصَورة المنشورة من قِبَل الفصائل الجهادية، تُقدِم الأطفال على أنهم جهاديون مُؤدلجون منذ الولادة، فهم يستخدمون خطاب الكبار، ويحملون نفس السلاح وينظرون بعبوس شديد، ويتابعون تدريبهم العسكري برضى وفخر، وفي نظري يُعتبر هذا بحد ذاته جريمة بحق الإنسانية، ففي كل الأعراف والأديان يبقى الأطفال أبرياء من ذنوبهم، ومما يرتكبونه تحت ضغط المجتمع أو من يوجههم من الأفراد".

ويشدد ديركي في حديثه على أن هذه التنظيمات تسعى لإيصال صورة مُتجانسة عن مجتمعاتها التي تبدأ بالطفل الرضيع وتنتهي بالمجاهد العتيد، مما يؤدي إلى عدم التمييز في هذه الحالة بين المدنيين والأطفال وبين المسلحين الحقيقيين.

يعتمد ديركي في فيلمه على إيصال الرسائل الرمزية من خلال الصور والمشاهد المتعاقِبة، فرغم انعدام صور العنف والحرب والمجازر، إلا أنها تبقى حاضرة في ذهن المشاهد، يعيشها دون أن يتعرض لفجاجتها، ويؤمن ديركي بأن لكل جثة حق الحماية من أعين العامّة، وأن للحرب أدواتها الصحافية والفنية التي توصل الحقيقة من دون استمرار عرض مَشاهد الدم والعنف، فهو يرى أن ذلك يسبب رد فعل عند معظم المشاهدين الذين يمتنعون عن متابعة الأخبار القادمة من سورية لهذا السبب.

ويعتمد في الانتقال من مشهد إلى آخر على الصور المَجازية، فمِن مشهد لَعِب الأطفال بقنبلة منزلية صنعوها بأيديهم ننتقل لنرى الأب الذي قُطِعت قدمه بسبب انفجار لُغم، ومن مشهد قناديل الضوء التي طيّرها الأولاد إلى السماء ننتقل لنسمع الأب يقول بأنه سيلتقي بقدمه المقطوعة في السماء حيث الجنة، وتستمر المُفارقات والمواءمات طوال الفيلم لترسم حبكة يصعب في بعض الأحيان التصديق بأنها لفيلم وثائقي من صلب الواقع، وليست لرواية محبوكة بعناية.
يقول ديركي:" تَعمدتُ أن أتجنب كل مشاهد المعارك والدم، واعتمدت على العنف النفسي، ولكن كان عليّ أن أُفجِر الغضب والعنف الكامنين في منتصف الفيلم، فصورتُ مشهد ذبح النعجة التي ينسكب دمها بغزارة، وذلك للتخفيف من ضغط المَشاهد التي تحمل كماً هائلاً من العنف المُبطن".


يتناول الوثائقي العلاقة الأزلية في مجتمعاتنا بين الأب وابنه، الحب اللانهائي، وفي ذات الوقت السيطرة والعبودية. حيث يعتبر الأب أن أولاده من أملاكه التي يقدمها فداء لمعتقده رغم حبه وتعلقه الشديد بهم، ويتمكن ديركي من التقاط أكثر اللحظات حميمية في حياة الأب وطفله حيث يلعب أصغر الأولاد مع أبيه "الجهادي" وهما على وشك النوم، فيطلب الصغير منه أن يفتح عينيه ثم يغمضهما باستمرار، في حين يطلب الأب من الطفل أن يغمض عينيه ومن ثم أن يغمضهما ثانية.

لم يكن هناك من شيء أوضح من هذا المشهد لإيصال رغبة الأب الحقيقية في أن يبقى صغاره معصوبي الأعين دوماً عن كل حقيقة مغايرة لما يراه هو.

يقول ديركي عن علاقته الخاصة بوالده: "أحاول دوماً أن أفهم سر هذه العلاقة وأثرها البعيد، فأبي ضَحى بكل ما يملك عندما واجهته وقد كنت شاباً يافعاً وقلت له بأنني أريد أن أسافر لدراسة السينما، فشجعني رغم جهله بهذا المجال، وترك لي طيلة حياتي حرية الخيار، أعتقد أن ما رأيته من أهوال الحرب وتمسُكي بالخيار السلمي والإنساني رغم كل العنف المحيط بي هو بفضل تربيتي في الطفولة".

يُجري ديركي أثناء التصوير مقابلة لا يمكن وصفها إلا بالسوريالية، فهو يتمكن من سؤال الأب "الجهادي" عن أكثر مشاعره حساسية وعاطفة تجاه ابنه، بينما يقوم الأب بتنفيذ عملية قنص. ويقوم الأب بقتل شخص أثناء حديثه العاطفي عن مشاعره الجياشة، في مفارقة تترك المُشاهد مذهولاً.



يرافق ديركي الطفل أسامة الذي سُمي نسبة إلى أسامة بن لادن، وأخيه أيمن الذي سُمي نسبة إلى أيمن الظواهري طوال الفيلم، فيبدوان هَشين ضعيفين في عالم صارم، فأسامة الولد الذكي الذي طالما تحدى كل المبادئ حتى الدينية منها، ينصاع في النهاية للتدريبات العسكرية العنيفة، ويعترف ليلاً لإخوته وهو يبكي بأنه يخاف من أتفه الأصوات، وبأنهم مستعدون لقتله برصاصة إن أخطأ. بينما يفشل أيمن في كل التمارين العسكرية نظراً لضعف بنيته وشروده الدائمين فيُعفى من متابعة تدريبه العسكري ويتابع تعليمه الابتدائي في المدرسة. 

وبينما يصدح صوت أيمن عالياً وهو يقرأ قصيدة في كتابه المدرسي عن سفينة الفضاء التي ستحمله عالياً نحو النجوم والغيوم، يلتحق أسامة مرتدياً بذلته العسكرية في شاحنة تصحبه مع مجموعة من الأولاد، في رحلة تدريب عسكري قاسية لا تنتهي قبل عدة سنوات. يقول ديركي: "هناك في الغرف المغلقة، تدور أكثر التفاصيل إنسانية ضمن أكثر البيئات اللاإنسانية التي خلقها البشر. وقد تعمدتُ أثناء إنجاز الفيلم أن أكون حيادياً تماماً في نقل الواقع، لم أرِد أن أنتقد أو أوصل رسائلي الخاصة، أردت أن يرى العالم تفاصيل الحياة اليومية كما هي هناك دون مبالغة أو نقصان".

يدخل طلال ديركي في فيلمه الوثائقي هذا عالماً فنياً وتوثيقياً خاصاً، يُغير مفاهيم الأفلام السابقة ويبني حجر أساسٍ لِما سيأتي، فهو قد بذل ما لا يمكن بذله لفهم كيفية تكَوّن تلك المُجتمعات منذ بدايتها، وتَمكّن من إيصال رسالة أطفال ذاك العالم الذين يفتقدون لحياةٍ، هُم لا يعرفون حتّى بوجودها.

المساهمون