عن الانتقال السياسي والتهديد الإرهابي في تونس

عن الانتقال السياسي والتهديد الإرهابي في تونس

31 أكتوبر 2018
+ الخط -
دشّنت تونس، بعد الثّورة، مرحلة جديدة من مراحل الانتقال السياسي نحو الدّولة الدّيمقراطيّة، وكان جسر العبور إلى تلك المرحلة متمثّلا في إدارة السياسة بطريقةٍ عقلانيةٍ تقوم على قبول الاختلاف، والتّحاور، والاحتكام إلى صندوق الاقتراع في عمليّة التنافس على السلطة. فأصبحت تجربة الحكم حالةً سياسيّة نسبيّة، مفتوحةً على التّداول، وقابلة للتّغيير والتّجديد والتّحديد، بحسب مقتضيات اللّحظة التاريخيّة (الظّروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة) التي ينتمي إليها الشّعب التونسي. ولم يكن التأسيس الدّستوري للدّولة في التّجربة الانتقاليّة التونسيّة أمرا فوقيّا أو منجزا فرديّا أو حزبيّا، بل كان إبداعا تفاعليّا مواطنيّا، ساهمت في صوغه المنظّمات الحقوقيّة، والهياكل النقابيّة والأهليّة، والأحزاب السياسيّة المكوّنة للمجتمع المدني. ولم يكن التحوّل نحو الدّيمقراطيّة والقبول بمنطق المشاركة لا المغالبة فعلا اعتباطيّا أو عملا عفويّا، بل كان نتيجة وعيٍ مسؤولٍ لدى النّخب التونسيّة، الحاكمة والمعارضة، التي قبلت بمنطق التعايش والتنافس السّلمي على السّلطة. وجنّب ذلك النّهج التفاعلي في التعاطي مع الشأن السياسي البلاد مخاطر الانزلاق في مسالك العنف ومساوئ الاحتراب على السلطة، ومكّن البلاد من العبور إلى فضاء الدول الديمقراطية.
ويُلاحظ المتابع لمستجدّات المشهد السياسي في تونس، سنواتٍ بعد الثورة، أنّ مشروع الدمقرطة في البلاد تهدّده تحدّياتٌ عدّة، ومعضلات جمّة في مقدّمتها معضلة الإرهاب. فكلّما قطع الاجتماع التونسي خطوةً مهمّةً على درب الإصلاح السياسي، تحرّكت آلة الجماعات الإرهابية المدعومة بلوبياتٍ في الدّاخل والخارج لتهدّد مسار الانتقال الديمقراطي والسلم الاجتماعي 
بهجماتٍ دمويةٍ غادرة. فبعد انتخابات2011 التشريعية والرّئاسية، المشهود بنزاهتها، واجهت تونس صعود جماعاتٍ سلفيّة متشدّدة، رفضت الانخراط في السياسة، وخيّرت اعتماد العنف المسلّح لتغيير النظام الحاكم. وعرفت البلاد سنة 2013 حادثتي اغتيال سياسي، الأولى ذهب ضحيّتها المعارض اليساري شكري بلعيد، والثانية استهدفت محمّد براهمي، عضو المجلس الوطني التأسيسي عن حزب التيار الشعبي، وهو ما عزّز الاحتقان بين الفرقاء السياسيين (الترويكا وخُصومها) وهدّد بنسف التجربة الديمقراطيّة. وتزامن ذلك مع خوض التونسيين حوارا تعدّديا جادّا حول محامل الدستور الموعود. وبعد التوصّل إلى بلورة دستور تقدّمي/ توافقي، وتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية سنة 2014، تزايدت وتيرة العمليّات الإرهابيّة في المناطق الطرفية والمرتفعات الحدودية (جبال الشعانبي، سمامة، ورغة، مغيلة..). وشهدت تونس سنة 2015 انتقال الإرهاب من الجبال إلى المدن، فتمّ استهداف السياح في متحف باردو ومدينة سوسة، وجرى تفجير حافلة للحرس الرئاسي في العاصمة. وبعد نجاح التونسيين في إجراء الانتخابات البلدية (2018) التي تعتبر خطوةً مهمّة على درب تركيز الحكم المحلّي، تحرّكت آلة الإرهاب لتقوم بتصفية ستّة من أعوان الحرس المرابطين في منطقة غار الدماء، على الحدود مع الجزائر. وفي الوقت الذي تسعى فيه تونس حاليّا إلى انتخاب أعضاء المحكمة الدستوريّة، وإنجاح مسار العدالة الانتقاليّة، واستكمال التصديق على قوانين تقدّمية عدّة، فجّرت شابّة (30 سنة) نفسها في شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة، وهو مكان حيويّ، يعجّ بذكرى الاستقلال والثورة في آن، ويُعرف باحتضانه التظاهرات التعبيرية والاحتجاجيّة على اختلافها. ويشتمل استهدافه بعمل إرهابي على استهداف مكسب الحرّية ولأجواء الديمقراطيّة المشهودة في البلاد بعد الثورة.
المؤكّد أنّ العمليّات الإرهابية الدّامية التي شهدتها تونس بعد الثورة تحمل رسائل عدّة، لعلّ أهمّها الدّعوة، تلميحا أو تصريحا، إلى تقويض التجربة الديمقراطية، وإرباك السلم الاجتماعي، وإنهاك الاقتصاد، وإشاعة حالةٍ من الشكّ وعدم اليقين في علاقة المواطن بأجهزة الدولة على نحوٍ يسمح بتسويد الفوضى وتعطيل مسار الانتقال السياسي. والثابت أنّ تلك الدعوات لم تجد لها صدىً لدى معظم التونسيين الذين كثيرا ما وقفوا إلى جانب القوّات المسلّحة في معركتها ضدّ الإرهاب، ودانوا استخدام العنف وتهديد الديمقراطية الوليدة بقوّة السلاح. لكنّ اللافت أنّ بعض السياسيين يغتنمون الحدث الإرهابي، لتسجيل نقاط على خصومهم، وتحقيق مصالح 
حزبيّة ضيّقة، فتراهم يتهمون، على سبيل الارتجال والعصبيّة، هذا الطرف الحكومي، أو ذلك الخصم السياسي، بالضلوع في الحدث الإرهابي، من دون أن يقدّموا دليلا على ذلك. وخطورة هذا التوجّه في أنّه يفتّ عضد الوحدة الوطنيّة في مكافحة الإرهاب، ويفتح المجال لترويج خطاب التخوين والتخوين المضادّ بين أبناء الوطن الواحد، ويُوفّر مناخا سياسيّا مناسبا لأباطرة الإرهاب الذين يستغلّون احتدام الصّراع بين الفُرقاء السياسيين ليبثّوا المزيد من الفوضى في البلاد. والحال أنّ الحاجة أكيدةٌ إلى رصّ الصفوف في مواجهة الخطر الإرهابي.
يُمكن القول، ختاما، إنّ العمليّات الإرهابيّة تبقى، على الرغم من جهود المؤسّسة الأمنيّة في تعقّبها ومحاصرتها، خطرا داهما وتحدّيا كامنا يهدّد السّلم الاجتماعي، ويُعطّل الانتقال الاقتصادي، وينذر بإرباك المسار الديمقراطي في هذه الفترة الدّقيقة من تاريخ تونس. ويُفترض أن تنتهج الجهات الاستخباريّة المسؤولة سياساتٍ استباقيّةً تكشف بمقتضاها جيوب الجماعات المتطرّفة قبل أن تنجح في إيذاء المواطنين والإساءة لهيبة الدّولة. ومن المهمّ، في هذا الخصوص، تطوير التقنيات الدفاعية والاستكشافية للقوّات المسلّحة، وتجهيز الأماكن الحيويّة بوسائل مراقبة عالية الجودة، لكنّ المعالجة الأمنيّة لمعضلة الإرهاب تبقى غير مُجدية ما لم تعضدها وحدة وطنية جامعة، وخطط تنموية ناجعة، وجهودٌ بحثيّة تفهمّية معمّقة، تسعى إلى تحليل الظاهرة، وإدراك أسبابها ومحاضن إنتاجها، وسبل مواجهتها بطريقةٍ علميّةٍ تعيد بناء العقول، وإصلاح الأفكار، وترشيد مناهج التّربية على نحوٍ يُحصّن المجتمع من امتداد الإرهاب وانتشار التطرّف.

دلالات

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.