مشاورات الحكومة تعيد السبسي للواجهة... فهل تمهّد لتعديلات دستورية؟

مشاورات الحكومة تعيد السبسي للواجهة... فهل تمهّد لتعديلات دستورية؟

24 يونيو 2016
اشتكى السبسي مراراً من أنه مقيّد اليدين(فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -


أعادت المشاورات التي تجري حول تشكيل حكومة جديدة في تونس، زمام المبادرة إلى الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي من جديد، وإن كان عبر واجهة حكومية، وهو الذي كان اشتكى مراراً من أنه مقيّد اليدين، ولا يستطيع أن يتحرك كما يطالبه التونسيون، لأن النظام البرلماني القائم حدّد مجالات تدخّله، وهي في الغالب لا علاقة لها بمشاغلهم اليومية التي تبقى بين أروقة الحكومة. ومع حالة "القلق الدستوري" الذي أبرزته مشاورات تشكيل الحكومة، بسبب تفتت الخيط الفاصل بين السلطات، وخصوصاً التنفيذية، وبين رأسيها، رئيس الدولة ورئيس الحكومة، بدأت تبرز تساؤلات حول إمكان حصول تعديل دستوري، إلا أن الكثير من المعطيات تستبعد إجراء هكذا تعديل في هذه المرحلة الدقيقة التي تمر بها البلاد.
ولم تكن إشارة رئيس الحكومة الحبيب الصيد إلى إمكانية تحكيم المؤسسة التشريعية، البرلمان بالأزمة الحكومية، إلا حلقة من هذا "الجو الدستوري" الجديد الذي ميّز الأشهر الأخيرة في تونس، وبدأت خيوطه تتضح مع المبادرة الجديدة. الصيد، أراد أن يذكّر الرئيس التونسي، والأحزاب التي دعت إلى استقالته، بأنه لم يعد من حق الرئيس أن يقيل رئيس حكومته، حتى ولو كان التقييم سلبياً، وحتى في حالات الأزمة، ولا بد من المرور إلى البرلمان عبر إمكانيات متعددة، قد تطيح برئيس الحكومة ولكنها قد تطيح أيضاً برئيس الدولة نفسه.
أما السبسي، الذي أطلق مبادرة المشاورات لتشكيل الحكومة، ويقود المفاوضات، ويطرح أوراق عملها، وينسق سياسياً بين الأحزاب، أعاد إلى الأذهان صورة الرئيس في نظام رئاسي، وليس برلمانياً، تحوّل فيه رئيس الحكومة الحائز على ثقة البرلمان، إلى وزير أول، يجتمع أسبوعياً مع الرئيس ويتابع معه شؤون الحكم.
وبقطع النظر عن هذه الصورة الظاهرة، التي تبدو مسألة طبيعية، تنسق فيها الآلة التنفيذية سير أعمالها، يعرف التونسيون أن السبسي هو صاحب القرار تقريباً، وأن كل شيء تقريباً يمر عبر قصر قرطاج، أو على الأقل بعلمه، وأن محاولات الصيد المتعددة منذ تعيينه، بالنأي بحكومته عن مشاكل الأحزاب، والحزب الذي رشحه بالأساس، "نداء تونس"، لم تنجح كثيراً، وربما كلّفته أكثر مما يتوقع. ولكن على الرغم من تعالي العديد من الأصوات بين أحزاب وشخصيات قانونية وسياسية، تتحدث عن القلق الدستوري، وهذه الوضعية الهجينة التي لم تنتج نظاماً برلمانياً حقيقياً، ولا رئاسياً كاملاً، لا يبدو أن الآمال بتغيير دستوري ستتحقق في الوقت الحالي.
وفي سياق المشاورات لتشكيل الحكومة، فإن رفض الجبهة الشعبية اليسارية، حضور باقي جلسات المشاورات، جاء ليسلّط الضوء من جديد على مناخ انعدام الثقة بينها وبين السبسي، أو ما يمثّله سياسياً وفكرياً، كموقع يميني ليبيرالي. ولم يكن السبسي يرغب منذ البداية في دعوة "الجبهة" للمشاركة في المشاورات، لأسباب عديدة أهمها أنه متيقن من رفضها دخول الحكومة، وأنه يدرك في الوقت نفسه أنها مرتاحة حيث هي، في موقعها المعارض بامتياز، وأنها لن تقبل أبداً بتقاسم فشل حكومته، في أجواء اجتماعية واقتصادية خانقة، وتستعد في الوقت نفسه للاستحقاقات المقبلة.
ويعرف السبسي أيضاً أن "الجبهة" لن تقبل أبداً بمشاركة حكومة تكون حركة النهضة طرفاً فيها، ولكنه استجاب لدعوة الاتحاد العام التونسي للشغل الذي حرص على أن تشارك "الجبهة" بكل أحزابها في هذه المشاورات، ليثبت أن سعيه للوحدة الوطنية حقيقي، وأن "الجبهة" لا تريد أن تكون جزءاً من هذا الوفاق، وكان منذ البداية يريد عزل "الجبهة" وإظهارها أمام الرأي العام كرافضة دائمة للحلول، مكتفية بالمعارضة المريحة، ولا تريد أن تشارك في جهود إنهاء الأزمة.


وكانت "الجبهة" تدرك أيضاً أن هدف السبسي هو عزلها، وكشفها بهذه الصورة للرأي العام، ولذلك قبلت المشاركة في الجولات الأولى للمشاورات، تجنّباً لهذا الوضع، ولتفهم حقيقة ما يدور في قرطاج، لتعلن في النهاية قرارها الانسحاب من هذه المساعي لأنها "لا تهدف إلى إيجاد حل جذري لأزمة البلاد، بقدر ما تهدف إلى ترتيب البيت الداخلي للائتلاف الحاكم وتوسيع قاعدته لخلق الشروط السياسية والاجتماعية المناسبة لفرض إملاءات المؤسسات المالية الدولية على الشعب التونسي بأساليب قسرية عبر حوار شكلي ومتسرع ومعلوم النتائج مسبقاً خبرته الجبهة في محطات سابقة"، كما قالت في بيان لها.
واعتبرت الجبهة في بيانها أن "المضامين التي وردت في الوثائق التأليفية لا تحتوي خيارات جديدة مختلفة عن الخيارات التي أغرقت البلاد في الأزمة، بل تعكس الخيارات القديمة الفاشلة نفسها والإملاءات التي رشحت بها رسالة محافظ البنك المركزي ووزير المالية إلى صندوق النقد الدولي وكل القوانين التي صادقت عليها الأغلبية في البرلمان والإجراءات التي تمّ تمريرها في ميزانية الدولة لهذا العام والتي تهدف إلى تحميل الشعب التونسي فاتورة الأزمة التي تسببت فيها هذه المؤسسات ولوبيات الفساد".
وحول المحاذير التي وردت في مضمون الوثائق التأليفية، قال المتحدث باسم "الجبهة" حمة الهمامي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن أهمّ "المحاذير تهمّ محاولات قمع المطالب المشروعة للعاطلين عن العمل والكادحين والفقراء والشعب عامة، وفرض خيارات لا علاقة لها بمصالحهم على غرار ما عشناه خلال الأشهر الأخيرة في أكثر من مناسبة وفي أكثر من جهة".
من جهته، اكتفى السبسي بالتعبير عن استيائه، من موقف "الجبهة"، شكلياً فقط، لأنها لم تعتذر حتى عن الحضور، معتبراً أنها مسألة "حسن تعامل"، لأنه يعرف أن الخلاف جوهري، وأن النتيجة واحدة، وأن هدفه بعزلها وإظهارها في صورة الذي لا يعرف إلا المعارضة، يمكن أن تنجح ولو نسبياً.
ولكن "الجبهة" في المقابل، تعرف جيداً أن رغبة السبسي الحقيقية هي البحث عن هدنة اجتماعية، تمر حتماً عبر اتحاد الشغل، وأحزاب اليسار عموماً التي تسيطر على أجزاء كبيرة من الشارع التونسي، ولديها قدرة على تحريكه، ولم يتوانَ السبسي ورئيس حكومته على اتهام "الجبهة" بتأجيج الاحتجاجات التي شهدتها أكثر من مدينة في تونس.
ولا تريد "الجبهة" مطلقاً أن توفر هذه الأرضيّة السياسية للسبسي ولأحزاب الائتلاف عموماً، ولا المشاركة في وضع غطاء مشترك للفشل المرجح بسبب المؤشرات الصعبة للاقتصاد التونسي. وعلاوة على كل ذلك، تعرف "الجبهة" أن عمل المعارضة بالأساس، وتقدّمها الممكن انتخابياً، يمر أساساً بفشل الحاكمين، وكسب النقاط تدريجياً وتراكمها، خصوصاً أن وجودها في الساحة السياسية والبرلمانية شهد تطوراً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، عبر اتّباع الاستراتيجية نفسها.

المساهمون