كمال الحاج.. عودة إلى فيلسوف التعريب

كمال الحاج.. عودة إلى فيلسوف التعريب

16 يوليو 2014
+ الخط -

أمتع "غاليري صفير-زملر" (بيروت) رواده مؤخراً بمحاضرة نادرة المثال. ومردُّ فرادة هذا اللقاء يعود إلى الموضوع الشيق الذي تخيّره للنقاش تحت عنوان "العربية يا أمي!"، والأرضية الفكرية التي بنى المنظمون عليها طرحهم اللغوي ذاك استناداً إلى التجربة الخاصة (والمغيّبة) للفيلسوف اللبناني كمال يوسف الحاج (1916-1976).

لا يقيض للمرء أن يقع كل يوم، في عاصمة الفرانكوفونية العربية، إن جاز لنا التعبير، على نظير لهذا المجلس العروبي القح. لا لقلّة عروبيي لبنان، أو لندرة في "أساتذة" العربية فيه، وإنّما لخصوصية شخصية الحاج نفسه الذي سعى إلى تكرّيس العروبة اللغوية فلسفياً، انطلاقاً من اعترافه بوجود ثنائية لغوية، ونقضه في الوقت عينه المبدأ القومي العروبي، مرجحاً عليه مفهوم "الأمة" العربية.

تفتّحت قريحة الفيلسوف اللبناني المراكشي المولد، في أشغالها اللغوية، بعد استقراره في لبنان، إثر تنقلات عديدة بين القاهرة والشام (حيث أصدر والده صحيفة فيها)، وبعد أن ولج بوابة الفلسفة وهو في الرابعة والعشرين، عبر عكوفه على ترجمة كتاب الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (1859-1941): "رسالة في معطيات الوجدان البديهيّة"، التي انتهى منها بجهد جهيد عام 1946.

وهذه المشقّة بالذات هي ما سيقوده لاحقاً إلى الغوص في لجج محيط اللغة إيّاه، في محاولة منه لفك ما استغلق عليه منها، ليكون كتابه الأول: "فلسفة اللغة" (1956) الذي لقي به استحساناً وحظوة لدى النقاد، لدرجة أن قال فيه أحدهم بأنّه لم يظهر في العربية كتاب مثله يتناول معضلة اللغة في أبعادها الفلسفيّة منذ "دلائل الإِعجاز وأَسرار البلاغة" (عبد القاهر الجرجاني 1010- 1078)، أي منذ أزيد على ثمانية قرون ونصف، والذي أتبعه بعدها بثلاث سنوات بكتابه الآخر "دفاعاً عن العربية".

قبل عام من زلزال الهزيمة الحزيرانية (يونيو 1967)، دخل الحاج في أتون معركة شخصية لإدخال مادة "الفلسفة اللبنانية" ضمن مقررات قسم الفلسفة الذي كان يرأسه في الجامعة اللبنانيّة (1957-1974)، وذلك بعد أن ضاق ذرعاً بالديكور النخبوي - البرجوازي الذي أحيطت به هذه المادة الفكرية الحيوية بعد تطورها في لغات أخرى غير العربية، ورغبةً منه في إعادتها إلى "الشعب" وحياة الناس، عبر انكبابه على نفض الغبار عن شخصيات فلسفية نشأت على الأرض اللبنانية، كان لها القدح المعلى يوماً في هذا الحقل، من أمثال بيوثوس الصيداوي، وأدريانوس الصوري، وطاليس وزينون الفينيقيّين.

كلّ هذا في جو سياسي مشحون عقائدياً بين العروبين الاشتراكيين، والفينيقيين الاستقلاليين، والقوميين السوريين اليمينيين، ناهيك عن مزيج نار وبارود اللينينيين والماركسيين. لتأتي الحرب الأهلية وتنسف من الجذور لا فكرة الدولة العتيدة فحسب، بل ومفكريها، فكان مقتله في أوائل نيسان/ أبريل 1976 نتيجةً منطقية لتلك العبثية الداشرة.

فقول الحاج بأمة عربية، لا قومية عربية، على اعتبار أن الأمة تتركز على اللغة، فيما قيام القومية يكون على هيكل الكيان السياسي؛ أورثه عداوات كثيرة. وذلك على الرغم من أنّ هذه المقولة داناها أو تبناها (لاحقاً) مفكرون محسوبون على الفكر القومي العربي مثل قسطنطين زريق (1909-2000)، وتبعه فيها آخرون كمحمد عابد الجابري (1936-2010)، ومحمد جابر الأنصاري (1939). خاصّة وأنّ مناداة الحاج بقومية لبنانية غير منفكّة عن محيطها العربي، أتى في نظريته متساوقاً مع تصنيفه الصهيونية على أنّها الخطر الأكبر الذي يتهدد لبنان، حيث أصدر في عين عام "النكسة" كتابه المعروف "خطر الصهيونية".

لم تمرّ ذكرى مقتل الحاج هذا العام خجولة كباقي السنوات، إذ أقيم له في جامعة سيدة اللويزة مؤتمر أكاديمي ضمن احتفالية أيّام حملت اسمه، وذلك بمناسبة البدء بطباعة مؤلفاته الكاملة نهاية آذار/ مارس الماضي (14 مجلداً)، لتأتي محاضرة "غاليري صفير-زملر" فتضيء أكثر على الإشراق اللغوي لهذا الفيلسوف اللبناني المُقصى (نال دكتوراه الفلسفة من السوربون 1949).

وعلى الرغم من أن المحاضر (الكاتب والمترجم جاك الأسود) تجنب الخوض في جوانب إشكالية في لسانيات الحاج، من قبيل مناقشة هالة القداسة التي تحيط باللغة العربية (دينياً)، وما خالط تاريخ تقعيدها وبلاغتها من مناكفات وفذلكات فقهية إسلامية، واشتباكات فكرية مذهبية كانت السياسة فاعلاً أساسياً فيها؛ غير أنّ المتحدث وضع مستمعيه في أجواء تشبه جلسة صوفية لتذوق الأفكار المجردة عن اللغة لدى الحاج الذي عدّ العربية لغة تنزيل "ربّاني"، ووصفها بأنّها "أمّ اللغّات"، جامعاً في منطقه بين التراث الغنوصي المسيحي، والعرفان الإِسلامي، وناحتاً لهما معاً مصطلح "النصلانية".

وبين الاصطلاح والمواضعة في اللغة من جهة، والتوقيف من جهة أخرى، يميل إيمان الحاج به نحو التوقيف، والذي يتلخّص بأن الإله المتعالي هو مصدر جميع اللغات البشرية، متبعاً بذلك أفلاطون والجاحظ وديلاند.

كل هذا على النقيض من المدرسة الأخرى التي لا تقل نفوذاً في أوساط علماء اللسانيات والفلاسفة على السواء، وتقول بأن الأصوات المسموعة هي الأصل في كل اللغات، وأن اللغة من إبداع الإنسان لما يتمتعُ به من حرية واقتدار. ولهذه النظرية من ينافح عنها ليس أقلّهم ابن خلدون، وأرسطو (تلميذ أفلاطون)، وديكارت، وسبينوزا.

كما أنّ مصطلح "اللغة الأم" (بالعربية) هو اقتراح آخر من الحاج، يُضاف إليه إتيانه بوزن "فَعْلَنَ"، وتوليده أفعالاً منه مثل: أنسن، وشخصنَ، وزمكن. وهذا ليس غريباً على "الشاعر" الذي قرض الشعر بالفصحى والمحكية اللبنانيّة، بل وكتبه بريشته إذ كان يجيد فنّ الخط كذلك.

مضى كمال يوسف بطرس الحاج. ولمؤتلف أو مختلف معه أن يتساجلا ما طاب لهما السجال، لكن ما يبقى هو رؤيوية إبداع المفكر المنخرط في هموم مجتمعه. وإلا كيف لنا أن نقرأ جملته التالية التي تلخّص شيئاً من مسعاه في حياته السابقة، دون أن نستشعر أن الرجل لا زال بيننا حياً "يتفلسف": "أن نُلًبْنِنَ الفلسفة باللغة العربيّة، لنُفَلْسِفَ لبنان في عالم عربيّ.. ينتفض".

المساهمون