شعبية "التنوير" الإسلاموفوبي

شعبية "التنوير" الإسلاموفوبي

31 مايو 2015
ماحي بينبين، مواد مختلطة (2012)
+ الخط -

يطغى اليوم في وسائل الإعلام والأوساط الشعبية الغربية خطاب يزعم بوجود تعارض أصلي بين الحضارة الغربية، التي صار اسمها يهوـ مسيحية ("يهو" من "يهودية") بعرف الهوياتيين الجُدد، وتلك التي يطلقون عليها اسم العربو ـ إسلامية ("عربو" من "عربية").

وفقاً لذلك، فإن التعارض ليس ظرفياً، بل هو ماهويّ ويعود إلى الجينات الثقافية والجذور الدينية التي قامت عليها كلٌ من الحضارتين.

فبحسب هذه المقاربة، تحمل هذه الجذور اليهومسيحية في ذاتها بذور التسامح والانفتاح وتمهد للقيم الكونية الحديثة مثل العلمانية والديمقراطية والحريات الفردية والمساواة بين الجنسين إلخ. بينما تحمل الجذور العربوإسلامية بذور الإنغلاق والتعصب وإلغاء الآخر واستعباد النساء ومحو الفرد.

النخب الثقافية والسياسية ليست بمنأى البتة عن هذا الخطاب، ففي فرنسا على سبيل المثال، نجد سياسيين من الصف الأول (ولا أتكلم هنا عن سياسيّي اليمين المتطرّف فحسب) ومفكرين وروائيين مشهورين صاروا من أبواق الإسلاموفوبيا. رغم ذلك لا يمنع هؤلاء، وفي أوروبا على الأقل، من بقاء الخطاب المذكور مدعاة للضحك في الأوساط الأكاديمية المختصة.

كتاب "أرسطو في جبل سان ـ ميشيل. الجذور الإغريقية لأوروبا المسيحية" للمؤرخ سيلفان غوغنهايم هو على الأرجح أكبر خرق حققته الإسلاموفوبيا حتى الآن في المؤسسة الأكاديمية الفرنسية. يقوم طرح الكاتب الأساسي على إنكار ديون الغرب للحضارة العربوإسلامية.

لكن الكتاب، وإن كان قد حقّق مبيعات خيالية، فهو لم يُستقبل في أوساط المؤرخين المختصين إلا بصفته هذياناً شعبوياً وهوياتيّاً يضرب عرض الحائط بكل المعايير العلمية والوقائع التاريخية.

أكثر من ذلك، كانت له إيجابياته المتمثلة بإنزال المؤرخين من أبراجهم الأكاديمية ودفعهم للرد على الخطاب الإسلاموفوبي، كما ظهر في العمل الجماعي "الإغريق، العرب ونحن. مبحث حول الإسلاموفوبيا العالِمة".

إن كان مفهوماً أن يجد خطاب كهذا جمهوره في الغرب، فمن المُحيّر أن تكون له هذه الشعبية الهائلة في أوساط المثقفين العرب، وهذه المرة تحت عناوين تقدّمية. هؤلاء يستوردون خطاباً قومجياً رعاعياً من الثقافة الصحافية الغربية ليعيدوا تدويره عربياً بصفته بضاعة تنويرية وثورية.

لا تكفي قلة الاطلاع عذراً لتبرير هذا الفصام، فالمرء لا يحتاج أن يكون مختصاً كي يقاوم خطاباً كهذا، بل يحتاج إلى شيء من النزاهة الفكرية والمعلومات العامة.

عن التسامح، يكفي التذكير أن الحضارة المسيحية الأوروبية لم تستطع، قبل الأنوار، أن تتحمل في كنفها أي ديانة أخرى ما عدا اليهودية التي أبقت الكنيسة على معتنقيها الملعونين في حالة بؤس واضطهاد متواصل. في حين احتضنت الحضارة الإسلامية المسيحيين واليهود والصابئة والهندوس لقرون طويلة في كنفها، وإن بصفة أهل ذمة.

أما عن الطرح الذي يقول بأن الكتابات المقدسة اليهومسيحية أقل عنفاً من قرينتها العربوإسلامية فهي طروحات ضعيفة الحجة، فمثلاً لا يمكن لمن يجيد القراءة أن يدّعي أن التوراة، التي يأبى المسيح أن ينقض حرفاً أو نقطة واحدة منها، هي أقل عنفاً من القرآن.

ثانياً، لا يخلو العهد الجديد نفسه، وإن كان العنف على الذات أكثر حضوراً فيه من العنف على الآخر، من عبارات يمكن لفهمها الحرفي أن يبرّر الممارسات الأكثر عنفية تجاه الآخر الكافر أو اللامسيحي على غرار: "ومن أَعْثَر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي فخيرٌ له أن يُعلَّق في عنقه حجر الرحى ويُرمَى في لجة البحر" (متى 18 : 6)"، أما عن حجة استعصاء القرآن على التأويل كونه نصّاً مُنزلاً، فأصحابها يتناسون أن لديهم في المقابل إلهاً متجسداً يتكلم بشخصه، كما يتناسون التاريخ المعقد للنص القرآني.

بالطبع ليس القصد من هذا الكلام لا تغذية شوفينية هُويّاتية معكوسة ولا تجاهل أن الكنيسة هي اليوم أكثر تسامحاً وتصالحاً مع القيم الحديثة من المؤسسات الإسلامية على تنوّعها، ولا حتى إنكار أن الصيغة السياسية للإسلام وكذلك الصيغ المدنية والأهلية الراهنة تمثل عائقاً في معظم المجتمعات التي تدين به.

المقصود هنا فقط تبيان عبث كل خطاب ينظر إلى الأديان والهويات الثقافية بوصفها ماهيات ثابتة ومنظومات مغلقة، وليس كمحصّلات تاريخية لا يمكن فصلها عن حيّزها الجغرافي والاجتماعي ـ السياسي. من وجهة النظر اللادينية، ليس هناك من إسلام أصلي أو من مسيحية أصلية، بل هناك إسلامات ومسيحيات متعددة بتعدد الأمكنة والأزمنة.

وبالنسبة لمن يريد أن يتموضع في وجهة النظر هذه، إن لم يكن هناك معنى للقول إن الإسلام بريءٌ من حاضر المسلمين، فمن السخف كذلك إرجاع الحاضر البائس لمجتمعاتنا إلى جيناتنا العربوإسلامية المزعومة عوضاً عن البحث عن العلل في الماضي القريب.

دلالات

المساهمون