كامل وكمال

كامل وكمال

15 مايو 2023
واجه أورهان باموق دعاوى قضائية بسبب تفاصيل روايته (أوزان كوسي/ فرانس برس)
+ الخط -

في كل معركة انتخابية تجري في تركيا تظهر الانقسامات العميقة في المجتمع التركي والتي تمتد إلى أبعد من التفاصيل والمعارك الانتخابية، إذ إنّها تعبر عن سؤال الهوية وأي تركيا نريد؟ وأي طريق نسلك؟ الشرق أم الغرب؟ الإسلام أم العلمانية؟ وسؤال الهوية هذا مطروح منذ تفكك الإمبراطورية العثمانية، بل منذ مرضها، ولا تزال كل الشعوب التي كانت تحت حكمها لم تجد الإجابة عن هذه الأسئلة حتى الآن.

يطرح الروائي التركي، صاحب جائزة نوبل، أورهان باموق، هذه الأسئلة من خلال رواياته المتعددة، ويعيد تكثيفها عبر روايته الجديدة "ليالي الوباء"، المنشورة عام 2021، والتي ترجمت إلى العربية بقلم جهاد الأماسي وصدرت عن دار الشروق.

تنطلق الرواية من تفشي وباء الطاعون والكوليرا في جزيرة عثمانية افتراضية اسمها منغر، عام 1901، وتتتبع جهود الوالي سامي وأعوانه ولجنة طبية أرسلها السلطان عبد الحميد الثاني ضمت الطبيب نوري بك، زوج ابنة أخيه السلطان المخلوع رشاد الخامس، وعروسه الأميرة باكزة.

تصطدم جهود اللجنة لفرض الحجر الصحي بعادات وتقاليد أهالي الجزيرة من المسلمين، الذين يصرّون على الاجتماع للصلاة في المساجد، ويريدون تغسيل ودفن موتاهم حسب الشريعة، فضلاً عن معتقداتهم القدرية وطرقهم الصوفية. كذلك تواجه الإجراءات الصحية، مقاومة من قبل التجار والباعة، والذي ينتمي أغلبهم للمسيحيين الأرثوذكس، وتواجه اللجنة الصحية حالة الصدام والشقاق بين الطائفتين في البلد، ممّا يحول دون الاتفاق على تطبيق الإجراءات فيتفشى الوباء، وتفرض الدول الغربية بالاتفاق مع السلطنة العثمانية حصاراً على الجزيرة لتواجه قدرها القاتل.

من رحم الوباء والحصار تولد جمهورية منغر المستقلة على يد ابن الجزيرة حارس الأميرة وزوجها الأول أغاسي كامل بك، والذي يتحول إلى ديكتاتور صغير تنتشر صوره وكلماته في كل مكان.

سبّبت شخصية القائد كامل الصداع لباموق، إذ استدعي إلى المحاكم التركية بتهمة إهانة مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك، بسبب تشابه شخصية كامل مع كمال أتاتورك، فضلاً عن تلاقي سيرة وسلوك البطل المتخيل مع سيرة وسلوك أبو الأتراك الغازي مصطفى كمال باشا، أو كما قال صحافي تركي: "يمشّط شاربيه الرقيقين إلى الأعلى، وهو مستاء من أمه لأنها تزوّجت للمرة الثانية، وكان يطارد الغربان في طفولته، وتمكّن من مداهمة مكتب البريد والسيطرة على نظام التلغراف، وسيصبح كامل هذا رئيساً للجمهورية في نهاية الأمر... كلّ مَن يقرأ الرواية سيعرف أن المقصود هو أتاتورك".

برأت المحكمة الروائي من هذه التهمة، كما فعلت عام 2005، حين كان متهماً بإهانة الأمة التركية بحديثه عن المذابح الأرمنية، ولكنه يواجه بلاغات أخرى ومحاكم أخرى بسبب هذه التهمة، فضلاً عن هجوم الصحافة المحافظة عليه، واتهامه بممالأة الغرب لنيل نوبل ثانية!

أغضب باموق في هذه الرواية العلمانيين الأتراك فقط، بسبب التهكّم على بعض أعمال القائد كامل/ كمال، وهو الأمر الممنوع بموجب الدستور التركي بمادة مخصوصة ومعروفة بقانون حماية أتاتورك. لكنّ الكاتب أزعج الإسلاميين أيضاً برسمه شخصية السلطان عبد الحميد الثاني مستبداً ومتهماً بقتل خصومه بالسموم، كما فعل بمدحت باشا في محبسه بالطائف.

كذلك، تتطرق الرواية إلى تخصيص السلطان أكاديمية خاصة في إسطنبول لدراسة السموم وزرع كل أنواعها في حديقته الخاصة، وأبرزت الرواية اهتمام السلطان الأحمر بقراءة الروايات البوليسية، ولا سيما روايات المحقق شرلوك هولمز التي كتبها الروائي الإنكليزي آرثر كونان دويل والذي منحه عبد الحميد وساماً عثمانياً رفيعاً، كما كان يأمر بترجمة أعماله خصيصاً ليستمع لها، وقد قدّرت الأميرة باكزة في الرواية أنّه كان يتعلم منها إخفاء جرائمه.

هل كتب باموق روايته تحت تأثير انتشار فيروس كورونا، والذي احتفلنا الأسبوع الماضي بإعلان منظمة الصحة العالمية بالتراجع عن اعتباره وباء؟ بالتأكيد، فعلى الرغم من نفي الروائي لذلك، إلّا أنّه يعترف بأنّ معايشته لكورونا جعلته يضيف على الرواية، بعد الخوف والرعب من الجائحة والمصير والموت.

المساهمون