في رحيل وولفغانغ بيترسن: براعةٌ يعطبها تمجيدٌ هوليوودي

في رحيل وولفغانغ بيترسن: براعةٌ يعطبها تمجيدٌ هوليوودي

19 اغسطس 2022
وولفغانغ بيترسن: اقتباسات أدبية والمياه حاضرةٌ في حياته وأفلامه (Getty)
+ الخط -

تحدثُ وفاة السينمائي الألماني وولفغانغ بيترسن (1941 ـ 2022)، بعد يومٍ واحد على اقتحام اللبناني بسام الشيخ حسين فرعاً لمصرف "فدرال بنك" في الحمرا (بيروت)، مُهدِّداً موظّفين/موظّفات ومودعين/مودعات، ومُطالباً بوديعته المالية (209 آلاف دولار أميركي)، التي يتمنّع المصرف عن تسليمه إياها، كبقية المصارف، منذ "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019). ربطُ نبأ رحيل السينمائي الألماني (12 أغسطس/آب 2022، والإعلان الرسمي عنها حاصلٌ بعد 4 أيام) باقتحام مواطن لبناني فرعاً لمصرف (11 أغسطس/آب 2022)، متأتٍ من تشابهٍ حاصلٍ بين الفعل اللبناني والحبكة الدرامية للفيلم الأخير للألماني، "4 ضد المصرف" (2016)، المرتكزة على عملية نصبٍ ماليّ في مصرفٍ ألماني، يتعرّض لها أفرادٌ قليلون، فيُقرّرون استرجاع أموالهم بـ"القوّة".

رغم أنّ عملية النصب الألماني تلك مُنبثقة من تصرّف فرديّ لموظّف كبيرٍ في المصرف نفسه، يُعاني ضغوطاً من مسؤول أعلى رتبة منه؛ ورغم أنّ التصرّف اللبناني فرديّ بحت إزاء نظامٍ متكامل في السياسة والاقتصاد والمصارف والنظام الحاكم، كجهاتٍ مسؤولة، مباشرةً، عن أكبر عملية نهبٍ مصرفيّ بحقّ لبنانيين/لبنانيات؛ يصعب التغاضي عن مشتركٍ بين الفيلم والواقع، في لحظة انهيار لبناني، وغداة رحيل السينمائي الألماني.

"4 ضد مصرف" استعادة لفيلمٍ تلفزيوني ألماني، بالعنوان نفسه، يُنجزه بيترسن عام 1976، مقتبساً إياه من The Nixon Recession Caper للأميركي رالف مالوني، الصادرة عام 1972. هذا يُحيل إلى مسألة أساسية في السيرة المهنية لبيترسن: معظم أفلامه مُقتَبسٌ من روايات. فالفيلم السابق عليه، Poseidon، المُنجز عام 2006، مُقتبس من "مغامرة بوسايدن" (1969) للأميركي بول غالِكو، و"العاصفة الكاملة/المثالية (The Perfect Storm)"، المُنجز عام 2000، مُقتبس أيضاً من كتاب بالعنوان نفسه (1997) للأميركي سيباستيان يونغر. هناك أيضاً Shattered، المُنجز عام 1991، مأخوذٌ من "الكابوس البلاستيكي" (1970) للأميركي ريتشارد نيلي؛ و"منجم العدو" (1985) مستلٌّ من رواية بالعنوان نفسه (1979) للأميركي باري بي لونغيير.

أفلامٌ ألمانية يُنجزها وولفغانغ بيترسن قبل انتقاله إلى هوليوود، والانتقال حاصلٌ بفضل شهرة "القارب" (1981)، المستند بدوره إلى رواية بالعنوان نفسه (1976) للألماني لوتر ـ غونتر بوخْهايم. شهرة منبثقةٌ من براعة الاشتغال السينمائيّ، خاصة في إطار "السينما الألمانية الجديدة"، الحاضرة في ألمانيا الغربية بين ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته، والمتمثّلة باشتغالات هانس ـ يورغن سويبربيرغ وألكسندر كلوغي وفيم فاندرز وفولكر شلوندورف وفرنر هرتزوغ وفرنر شْروتر ومارغريت فون تروتر وراينر فرنر فاسبندر وهيلما سانْدرس ـ برامز. هؤلاء يلتزمون النقد الاجتماعي والسياسي في أفلامهم، والنتاجات التي يصنعونها خارجةٌ على نظام الاستديوهات الكبيرة، وأفلام التسلية والترفيه.

وولفغانغ بيترسن ينخرط في هذا الإطار، خاصة في أفلامه الألمانية. "العاقبة" (1977) مُقتَبس من السيرة الذاتية للسويسري ألكسندر تزيغلر: البداية عاديةٌ، فابن سجّان (15 عاماً) يُغرَم بممثلٍ مثلي الجنس، يكون سجيناً في السجن حيث يعمل والده. بعد خروجه منه، يجد الابن نفسه في علاقة حبّ معه، ما يدفعه إلى إعلان مثليته الجنسية أمام والديه. منذ تلك اللحظة، يتوغّل بيترسن في التفاصيل والهوامش المرتبطة بصدمة الأهل، وبإدخال الأب ابنه إلى "مشفى للتأهيل"، قبل تمكّن الابن من الهروب بفضل عشيقه. الهوية الجنسية والوعي الاجتماعي بها، وسلطة الأب، ومعنى العلاقة القائمة بين أهل وأبناء، ومفهوم الحبّ والمشاعر، مسائل يُعاينُها بيترسن، محاولاً عبرها إيجاد حيّز للذات خارج إطار الجماعة.

رغم أنّ "القارب" ـ المكتوب انطلاقاً من تجربة شخصية لبوخْهايم (كاتب ورسّام ومُصوّر فوتوغرافي وناشر، ومؤلّف كتب عن الفن الألماني)، تتمثّل بمهامٍ له يُنفّذها في الحرب العالمية الثانية ـ تجد سمات أساسية في "السينما الألمانية الجديدة" مكاناً لها، وإنْ خَفيّاً أحياناً، في تصرّف أو لقطة أو موقفٍ، عبر نصٍّ يروي حكاية الغوّاصة الألمانية "يو ـ 96"، خريف 1941.

هذا يختلف كلّياً عن فيلمٍ لاحقٍ به، "القصة التي لا تنتهي" (إنتاج ألماني أميركي، 1948)، المُقتبس من النصف الأول من رواية بالعنوان نفسه (1979) للألماني ميخائيل أنده. فانتازيا تُسحر بعوالمها الغريبة، مع صبيّ منعزل وانطوائي، يعثر في قراءة الكتب على ملاذٍ له وراحة، فتواصله مع والده يزداد صعوبة، بعد رحيل والدته. كتاب "القصة التي لا تنتهي" سيأخذه إلى عالمٍ آخر، وسيمنحه حياةً أخرى، يرويها بيترسن من دون التنصّل، كلّياً، من نقدٍ لنظام اجتماعي، موارب وقاسٍ أحياناً.

تجربته في هوليوود غير سوية دائماً، وهذا غير منتقصٍ من حِرفيّته المهنيّة. فـ"الطائرة الرئاسية" (1997) مثلاً يُشيد ببطولةٍ فردية لرئيسٍ أميركي على متن الطائرة الرسمية (Air Force One)، ضد انقلابيين روس يتسلّلون إليها ببطاقات صحافية مزوّرة، بفضل تعاون مع ضابط أميركي في فرقة الحماية. بطولات وتشويق وكلام مثالي عن إنسانية رجل يحكم العالم (هاريسون فورد)، ومفهوم الخيانة والمهنة، وضعف الحكم الروسي، وعظمة أميركا "منقذة" البشرية من إرهابيين قتلة.

تمجيد البطولة الفردية بشكلٍ هوليوودي يحضر في "طروادة" (2004)، رغم أنّ الشخصية الأسطورية آخيل، الواردة في "إلياذة" هوميروس (الصادرة في القرن الـ8 قبل الميلاد) مليئة، كالنصّ برمته، بعوالم وقصص وعلاقات ومسالك تطرح أسئلةً جمّة في شؤون الحياة والآلهة والناس والبيئات والحروب. تحويل شخصية أسطورية، يلمع اسمها في "حرب طروادة"، إلى رجلٍ هوليوودي، يؤدّي دوره براد بيت، الذي تطغى وسامته على أصل النواة الأصلية للشخصية، من دون أنْ يمنحها أصالتها؛ هذا التحويل يجعل الفيلم مجرّد "فيلم حرب"، رغم تضمين حوارات ولقطات فيه ما يوحي بأنّ الأسطورة الإغريقية/اليونانية حاضرةٌ، وهذا غير كافٍ وغير سوي.

يُنجَز "الطائرة الرئاسية" بعد عامين اثنين على تحقيق "تفشّي (Outbreak)، اللاذع، إلى حدّ ما، في انتقاده سلطات أمنية وعسكرية وسياسية في القيادة الأميركية، بلغة أفلام الحركة والتشويق، بسبب إعلاء المصالح السلطوية على مواطنين/مواطنات، يتعرّضون لإصابات خطرة، بعد تفشّي وباء يُعمَل عليه في مختبر علمي عسكري. مع بدايات تفشّي وباء كورونا، مطلع عام 2020، يُستعاد فيلم بيترسن هذا، مع أنّ الفيلم الأهمّ والأجمل والأقوى، درامياً وفنّياً وسردياً وحكاية (الذي يشترك مع فيلم بيترسن في معاينته آثار تفشّي وباءٍ في الاجتماع والعلاقات والمشاعر)، يبقى "مرض مُعد (Contagion)"، لستيفن سودربيرغ (2011)، الذي يُستعاد أيضاً في الفترة نفسها.

موقف
التحديثات الحية

أما "العاصفة المثالية/الكاملة"، فاستعادة لحادثة حقيقية تعيشها مدينة "غْلاستر" (ماساتشوستس)، خريف 1991. المدينة، المؤسَّسة عام 1623، تمتلك مرفأ بحرياً يُعتَبر، طوال 4 قرون متتالية، أول مرفأ أميركي. بحّارته/صيادو السمك يوصفون بالأمهر والأهمّ. ذات يوم، يُقرّر قائد مركبٍ (جورج كلوني) اختراق عاصفة بحرية خطرة للغاية، تُعرف بـ"العاصفة المثالية/الكاملة"، فيوافق رفاقه، لكنّ الموت بالمرصاد. تصوير العاصفة وحده يُثير قلقاً وخوفاً وارتباكاً، لشدّة براعة تنفيذه، المتمثّل بأمواجٍ يبلغ ارتفاعها 30 متراً، تُبتَكر افتراضياً بفضل مؤثّرات خاصّة بواسطة الكمبيوتر. البراعة التقنية غير حاجبةٍ أقوالاً نقدية تُشيد بها، لكنّها (الأقوال) تعتبر أنّ الفيلم "يفتقر إلى الدراما".

للبحر، في سيرة وولفغانغ بيترسن، حضورٌ يكاد يتساوى وحضور الاقتباسات الأدبية المختلفة: "عام 2009، يقول بيترسن (في حوار صحافي) إنّ قوّة الماء لا تُصدّق" ("لو موند" الفرنسية، 17 أغسطس/آب 2022). تُكمِل الصحيفة كلامه: "متأثّر دائماً بقوّة الماء، منذ طفولتي. متأثّر أيضاً بالأضرار/الخسائر التي يُسبّبها الماء عندما يطوف ساعاتٍ عدّة، ويتحطّم على الشاطئ".

فيلمه ما قبل الأخير تجري أحداثه على متن باخرة ضخمة (20 طابقاً، 13 جسراً، 800 كبينة)، تعبر المحيط الأطلسي باتّجاه نيويورك، آتية من اليونان. قصص وشخصيات وأحداث، بشرية وطبيعية/كارثية، تحصل ليلة رأس السنة.

لوولفغانغ بيترسن اشتغالات تلفزيونية عدّة (أفلام ومسلسلات)، إلى أفلامٍ قصيرة يُنجزها في ألمانيا الغربية. قلّة أفلامه السينمائية غير مانعةٍ تقديرات نقدية ونجاحات شعبية، وإنْ غير دائمة أو متساوية بينها كلّها.

المساهمون