"قماش أسود" .. براعة الروائي الحاذق

"قماش أسود" .. براعة الروائي الحاذق

25 يوليو 2022
+ الخط -

يستعير السوري، المغيرة الهويدي، في روايته "قماش أسود" الحائزة أخيراً جائزة غسان كنفاني للرواية العربية في دورتها الأولى، صوت شخصية الشابة الجامعية المتفوّقة، نسرين، التي انتزعها الحب من مدينتها حمص، هرباً من بطش أخيها الضابط في جيش النظام، المعروف بقسوته وتنكيله بالمعتقلين، لتلحق بحبيبها أحد نشطاء الثورة السورية إلى مدينة حلب، غير أنه يختفي ويظل مصيره مجهولاً بعد فترة من زواجهما الذي دفع عائلتها إلى التبرّؤ منها، واعتبارها ميتة، لأنها لم تمتثل لإرادة العائلة، وتزوّجت "من غير طائفة". وببراعة الروائي الحذق، وحساسية الشاعر المرهف، يجعل المغيرة من نسرين الساردة العليمة، فيتحكم بمقاليد النص منذ بدايته. يتنحّى الروائي جانباً، فلا نكاد نجد له أثراً مباشراً في أي تفصيل. ويمنح فضاء الرواية كاملاً من دون نقصان للعاشقة المخذولة، نسرين التي تتدفق في تداعيات تتنقل فيها بين الأزمنة والأمكنة برشاقةٍ وخفّة ومهارة. تحكي فصولاً من قصة الحرب والدمار والعنف والشتات والقمع والاعتقال والقتل والسواد الحالك الذي غشي مدينة الرّقة تحت سيطرة "داعش"، لتجد نفسها مرغمة على الالتحاق بعائلة زوجها في الرّقة، حبيسة عباءتها السوداء، ونقابها الذي يخفي (شأن نساء المنطقة) ملامحها بالكامل، ولتقع فريسة جشع (واستغلال) والد زوجها، أبو كريم، الخياط ومؤذن الجامع الذي سخّرها لخياطة العباءات والدروع والنقب. رضخت وصبرت، على أمل عودة زوجها أو بيان مصيره، تمهيداً لتنفيذ خطّة الهرب شبه المستحيلة.
قسّم المغيرة الرواية إلى 25 نبشاً، تستدعي حفريات كثيرة، لتمضي نسرين في نبش التفاصيل الموجعة، في لغة عالية جزلة عميقة، تضع المتلقي في قلب الحدث الذي يجري في قرية صغيرة منسية، شرق مدينة الرقة التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية، لم يتبق فيها سوى امرأتين غريبتين في قرية هجرها أهلها خوفاً من اقتحام وشيك. منهم من نزح إلى البرّية، ومنهم من توجّه تحت القصف المتبادل بين "داعش" و"قسد" إلى دير الزور. تتبدّى من خلال السرد شخصية روائية مذهلة، آسيا، الزوجة الثانية لأبي كريم الذي تزوّجها بعد شهر من وفاة زوجته الأولى. تظهر هذه المرأة الرقّاوية الجميلة، ذات الحضور الطاغي، شخصية نسائية استثنائية، ساحرة بقوة شخصيتها وميلها إلى السخرية في مواجهة أحزانها الكثيرة. تنفث سجائرها، غير عابئةٍ بحكم الجَلد فيما لو ضُبطت متلبّسة، لتبدأ المرأتان اللتان تقاطع مصيرُهما بمحض المصادفة رحلة الهروب والتيه قبل الالتحاق بمخيمٍ مرتجل، انضمتا إليه مستجيرتين بأهله الهاربين من بيوتهم، بعد أن تخلّى عنهما رب أسرتهما ولاذ بالفرار، ناجياً بنفسه. وفي المخيم المقام عشوائياً على مرمى النيران، تواصل نسرين سرد حكايات النساء المقذوفات في العراء، تلقي الضوء على معاناتهن ومخاوفهن وشقائهن وموتهن المجاني أحياناً.
وتخلص الرواية إلى أن الفقراء والنساء وحدهم من يدفعون الضريبة الباهظة في الحروب، عالقين بين موت وموت، ولا أمل قريب بفرصة نجاة. وقد أحسنت لجنة جائزة غسّان كنفاني اختيار الرواية المتميزة، حين رأت فيها رصداً لأوجاع السوريين في الرقّة، وتسليطاً للضوء على معاناة النساء. ولم تغفل الإشادة بلغة الرواية رفيعة المستوى. ومن دون أدنى شك، يستحقّ المغيرة، في مغامرته الروائية الأولى التي ختمها مفتوحة على الأمل، الحفاوة والاعتراف وردود الفعل المحتفلة، لأن "قماش أسود" نصّ مختلف يدين العنف والحرب والطغيان، وينتصر لعذابات المرأة، من دون اللجوء إلى الزعيق والشعارات المباشرة والبطولات الوهمية والتنظير الإنشائي، رغم أنه يوغل عميقاً في نكء الجرح السوري، ويخوض في تفاصيل الوجع، ويبدع في تصوير المشاهد الممعنة في القسوة من وجهة نظر البسطاء الذين خسروا كل شيء دونما ذنبٍ ارتكبوه، بحيث يصلح هذا النص للترجمة الفورية لعمل سينمائي مكتمل العناصر.
تفاصيل كثيرة مدهشة متقنة مؤثرة، يتضمنها هذا العمل الروائي الباهر... تحية إلى الصديق المغيرة، وهو يعلن عن نفسه روائياً من وزن ثقيل، ويجدّد الأمل في مستقبل الرواية العربية التي اعتراها كثير من الوهن والاستخفاف والتطاول من المدّعين الطارئين.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.