أيّ كتابةٍ تصلح في وداعِ راحلٍ؟

أيّ كتابةٍ تصلح في وداعِ راحلٍ؟

22 يونيو 2022
جان ـ بول بلموندو (1933 ـ 2021): ماذا يُكتَب في رحيله؟ (سيلفين لوفافر/Getty)
+ الخط -

 

يطرح رحيل سينمائي/سينمائية سؤال الكتابة، التي يُفترض بها أنْ تكون "رثائيّة"، مُطعّمة بشيءٍ من التحليل النقدي، شرط أنْ يتحرّر التحليل من سلبياتٍ ومساوئ، فالموت نهاية، واللحظة إنسانية، كما يقول كثيرون، في مقابل رفض آخرين تحرير الكتابة من نقدٍ، يتكامل بين وداع (يُفضّلون مفردة "وداع" على كلمة "رثاء") وتحليل مفتوح على كلّ شيءٍ. يستند الأوّلون إلى مفهومٍ أخلاقيّ، يتمثّل بـ"اذكروا محاسن موتاكم"؛ بينما يُصرّ الآخرون على أنّ الكتابة غير معنية بالمحاسن فقط، وأنّ الموت غير قادر على إخفاء سلبيات ومساوئ، مع اعتقادٍ لديهم بأنّ لحظة الوداع تتطلّب تخفيفاً، ولو قليلاً، من لغة التحليل النقدي الصارم.

رحيل كهذا دافعٌ إلى تساؤل عن معنى الكتابة ومفهومها، في لحظةٍ كهذه: استعادة شيءٍ من سيرة حياة ومهنة؟ التوقّف عند سماتٍ، أو خبريات، أو أفلام؟ رواية بعض الخارج على السينما وصناعتها؟ مؤلّفات عدّة تُخصَّص بسِيَر عاملين/عاملات كثيرين في صناعة السينما، منها مَرضيٌّ عنه، ومنها مرفوضٌ، لأنّ هؤلاء العاملين/العاملات يخشون كشف مخبّأ يريدون إبقاءه مُخبّأ، والمنشور، عادة، موثَّقٌ، فالكاتب معنيّ، إجمالاً، بتأكيد ما يُشير إليه، أو بتحليل ما لديه من وقائع ومرويات، تؤدّي إلى كشف مستورٍ أو أكثر. فهل يستعين بها كاتبو وداعٍ في رحيل أحدهم؟ أم يكتفون بسرد كرونولوجي مملّ لسيرة ومهنة؟

مأزق كتابة كهذه يزداد حدّة، عند اختيار كاتبِ وداعٍ أفلاماً لراحل/راحلة، خاصة إنْ كان عددها كبيراً، ما يُحتّم عليه انتقاء نماذج، تعكس ما يودّ التعليق عليه في لحظة الوداع. الانتقاء، بحدّ ذاته، صعبٌ، فالوفرة لن تكون دائماً على حساب النوع والقيمة، والكثرة لن تُحاصَر بنموذجٍ أو أكثر بقليل. هناك من يُنوِّع في خياراته، فتُصبح الوفرة في العدد انعكاساً لوفرة في التجريب، ما يُزيد من مأزق الاختيار في كتابة وداع. تفضيل نوع أو نموذج أو سمة، في السيرة المهنية للراحل/الراحلة، يُشبه إقصاءً لأنواع ونماذج وسمات أخرى، تزخر بها تلك السيرة، أحياناً. انتقاء فيلمٍ من دون آخر يُصبح تغييباً لأفلامٍ، لن تكون أقلّ أهمية سينمائية وفنية وجمالية.

 

 

الكتابة، لحظة الوداع، محدّدة بأمرين أساسيين، في صحافةٍ مكتوبة، وأخرى إلكترونية: السرعة (من دون التسرّع) والاختصار. هذا يعني أنّ الانتقاء مطلبٌ، أو الاكتفاء بكتابةٍ تُكثِّف نصّها الوداعيّ، من دون إسهابٍ في تناول أفلام أو سمات، فيوضح النصّ مفاصل أساسية من تلك السيرة المهنية. أو الاكتفاء بأفلام قليلة، يراها كاتب الوداع أفضل انعكاسٍ لحضور الراحل/الراحلة في السينما. أو الاكتفاء بسمات محدّدة، تُميّز الراحل/الراحلة عن آخرين في محيطه والعالم. أو الاكتفاء بلحظات مصيرية في حياته: علاقات حبّ، صداقات، مصائب عائلية. أو الاكتفاء بمواقف له إزاء مسائل مختلفة، تكون السينما إحداها.

الخيارات كثيرة، لكنّها غير متمكّنة من إيفاء كثيرين حقّاً لهم في كتابة، ربما لن تكون أخيرة، فالإرث الذي يُبقيه راحلون/راحلات عديدون كفيلٌ باستعادة هادئة له في أي وقتٍ، للتنقيب فيه عمّا يُمكن تحليله في كتاباتٍ لاحقة على لحظة الموت.

المساهمون