سهير البابلي... مدرسة للمشاغبين وأخرى للارتجال

سهير البابلي... مدرسة للمشاغبين وأخرى للارتجال

22 نوفمبر 2021
مع الممثلة زينة (عمرو مراغي/فرانس برس)
+ الخط -

يتذكّر كثيرون فقرات عدّة من مسرحياتها، وبعض أعمالها التلفزيونية، وشيئاً متواضعاً من سيرتها السينمائية، فالمسرح، بالنسبة إليهم، أكثر طغياناً. رحيل سهير البابلي (1937 ـ 2021) دافعٌ إلى استعادة المُضحِك في تأديتها أدواراً مختلفة، والمُضحك وفيرٌ وممتع، وصناعته العفوية على خشبة المسرح انعكاسٌ لبديهةٍ سريعة لديها، ولوعي معرفي واختباراتٍ شتّى، تُتيح لها ارتجالاً يصعب على آخرين معها التفوّق عليه، أو مجاراته. والارتجال، إذْ يجد في المسرح مساحة واسعة لكشف ما تمتلكه سهير البابلي من براعةٍ وعفويةٍ وبهاء حضور، يُصبح أسلوباً يعثر على شبيهٍ له لدى ممثلين وممثلات كوميديين قلائل، لكنّه يُتقن ـ في الوقت نفسه ـ تحويل مفرداته معها إلى سمةٍ، ترتكز على رغبة في المغامرة، وشوقٍ إلى تملّك فضاء المسرح، ولو للحظاتٍ قليلة.

هذا غير حاضرٍ في أعمالٍ تلفزيونية وأفلامٍ سينمائية. الارتجال المسرحيّ، وإثارة ضحكٍ منبثقٍ منه ومن فقرات أخرى في كلّ مسرحية، يغيبان في "مدرسة المشاغبين" (1973) لجلال الشرقاوي (إخراج) وعلي سالم (تأليف، اقتباساً عن فيلم To Sir, With Love للأوسترالي جيمس كْلِفال، 1967)، رغم كوميديتها. جدّية المُدرِّسة (البابلي) أمام طلبةٍ، يؤدّي أدوارهم ممثلون كوميديون، تضعها أمام تحدٍّ مزدوج، إذْ ستكون الممثلة الوحيدة بين ممثلين عديدين، وستُطالَب بجدِّية فاقعة أمام مُثيري شغبٍ ضاحكٍ، فالدراسة أهمّ، وإخراج الطلبة من فوضاهم وكسلهم ـ ومن عيشهم خارج كلّ "منطق" حياتي ـ أولوية قصوى.

المواجهة بين سهير البابلي وعادل إمام ـ سعيد صالح، تحديداً، درسٌ في الأداء، يصعب اختزاله أو وصفه. إمام وصالح يخطوان خطوات كوميدية تأسيسية جديدة في مسارٍ مهنيّ، في "مدرسة المشاغبين"؛ ورغم هذا، يبرعان في ارتجالات تتكرّر بوفرة، كأنّ الارتجال أصل العمل لا النصّ والحكاية والشخصيات. براعة، يُشاركهما فيها يونس شلبي وهادي الجيّار وأحمد زكي (مع أنّ شخصيته غير كوميدية)، تعجز عن استدراج البابلي إلى الجهة المقابلة للمُدرِّسة، وعن كسر الجدّية في شخصيةٍ، تصمد طويلاً أمام كلّ شيءٍ، لتحقيق المُراد من وظيفتها.

لكنّ الإمعان في قراءة "مدرسة المشاغبين"، غداة رحيل سهير البابلي، إساءة إلى ممثلةٍ، تخوض تلك المهنة بعد دراسة المسرح والموسيقى، والتدرّب على عزف البيانو. إساءةٌ إلى تجربة كوميدية متكاملة، تُتقن الراحلة تفعيل نبضها من شخصية إلى أخرى، كمن يبحث عن المختلف في مسام تلك الشخصيات، وفي ما يحتويه كلّ نصٍّ من معطيات، تبدو لسهير البابلي تحريضاً على اختراق جمودٍ فيها، فيكون الارتجال درساً آخر في كيفية الخروج بالشخصية من سماتها إلى راهنٍ يوميّ أو موقف أو تعبير من زميل لها، يدفع البابلي إلى تعليقٍ عليه من داخل النص والحبكة. ارتجالٌ يُصبح متنفَّساً، فحتّى الكوميديا تكون حادةً ومُتعِبة، باحتفاظها المتشدّد على المكتوب فقط.

أفلامٌ لها تشهد على سحرٍ يشعّ من جسدها وعينيها وصوتها ونبرتها، أمام كاميرا تُنصفها مراراً، كأنّ بينهما رابطا خفيا يُدركه مخرجون قلائل، فيبنون عليه ما يرغبون في التقاطه. "فجر يوم جديد" (1965) و"حدوتة مصرية" (1982) ليوسف شاهين مثالان مهمّان.

القصة الثالثة في "البنات والصيف" (1960) لفطين عبد الوهاب، و"صائدة الرجال" (1960) لحسن الإمام أيضاً. هذا تنويع يترافق واشتغالاتٍ كوميدية، لها امتدادٌ في المسرح والتلفزيون: "ليلة القبض على بكيزة وزغلول" (1988) لمحمد عبد العزيز، الذي يستكمل حكاية الثنائي النسائي في مسلسل "بكيزة وزغلول" (1986) لأحمد بدر الدين.

أما البطولة السينمائية فأقلّ من أفلامها، رغم أنّ الدور الثاني معها يمنح للشخصية قوة أداء، يصحّ معها (قوة الأداء) اعتباره دوراً أوّل. هذه ميزة قلّة من ممثلي الدور الثاني وممثلاته، في تاريخ السينما المصرية. البطولة النسائية السينمائية للبابلي قليلةٌ، لكنّ اشتغالها مع سينمائيين ـ يتمتّعون بحيوية التجريب الدائم لأدواتهم الفنية والجمالية والدرامية ـ أعمق من أنْ تُختزل بدور أول أو بدور ثانٍ. التنويع السينمائي، الذي تخوضه مراراً، يُعلن انتماءها إلى فنّ الأداء، لا إلى نوعٍ يحاصرها، أو إلى نمطٍ يُقيّد غليانها الداخلي، الذي يبدو، في أفلام أو مسرحيات أو مسلسلات (لا كلّها)، كأنّ لا نهاية له.

المساهمون