في رحيل عبد االطيف بن عمار: مساحة سينمائية محترمة

في رحيل عبد اللطيف بن عمار: مساحة سينمائية محترمة

10 فبراير 2023
عبد اللطيف بن عمّار: خبيرٌ في أسرار الكاميرا وفلسفتها (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

بدأ دراساته العليا في الرياضيات، في "كلية العلوم" في المدينة الفرنسية "نانت" (1961 ـ 1963)، لكنّه تخلّى عنها لاحقاً، لا بسبب كسلٍ أو غياب ذكاء، بل لأنّ رحلته في ذاك الاتجاه انتهت، ودافع الرغبة أحرق ما تبقى من طاقة حبّه لهذا العلم، بحسّ الفنان الذي كان يسكنه، بعد شعوره أنّ مستقبله يسكن في جهة أخرى، بعيداً عن لغة الأرقام والمعادلات والمقاسات والعدسات والبؤر والأبعاد والزوايا، وإنْ كان هذا المنطلق موجوداً فيه، لكنْ بطريقة أخرى، رأى أنّها أجمل وأعمق وأفضل، لأنّها العالم الوردي الذي حلم به كثيراً: عالم الصورة والتصوير، الذي اختاره عن سبق إصرار وترصّد، فدرسه وكشف خباياه في "المعهد العالي للدراسات السينمائية (IDHEC)" في باريس، وتخرّج منه بشهادة تصوير بعد عامين من الدراسة (1963 ـ 1965)، خرج منها باعترافٍ أكاديمي، خاض به أولى تجاربه السينمائية برأسٍ مرفوع، لأنّه اكتسب المبادئ الأولية، وخَبر أسرار الكاميرا وفلسفتها، في ذاك المعهد الراقي، الذي تخرّج منه آلاف السينمائيين والتقنيين في العالم. بعد هذا كلّه، عاد إلى تونس، واستقرّ فيها، وسار على المحطات الضرورية كلّها، قبل بلوغه 22 عاماً.

وُلد عبد اللطيف بن عمار في تونس، في 25 أبريل/نيسان 1943. تلقّى دراساته الأولى فيها، ثم التعليم الثانوي في "معهد العلوي"، الذي يُعدّ من بين أرقى المعاهد التونسية حينها. انتقل بعدها إلى فرنسا، لاستكمال دراسته في الرياضيات، قبل السينما. عاش مرحلة مهمّة من التاريخ الحديث لتونس، أي فترة الحكم الفرنسي، المنتهية عام 1956 بإعلان استقلالها، والمنعكسة مظاهرها، بشكل أو بآخر، في بعض أفلامه، خاصة "رسائل من سجنان" (1974)، الذي يُعدّ علامة فارقة، ليس في مدوّنة السينما التونسية فقط، بل في السينما العربية عامة.

عاد إلى تونس بعد إكمال دراسته، مُتّقداً حماسةً وشغفاً، وباحثاً عن فرصة يعكس بفضلها ما تلقّاه من جوانب نظرية في السينما، وهذا وجده في "المؤسّسة التونسية للإنتاج والتنمية السينمائية (SATPEC)"، المؤسّسة العامة التي نشأت بعد عامٍ من الاستقلال، أي عام 1957، والمسؤولة عن إنتاج الأفلام التونسية وتوزيعها واستغلالها، واستيراد الأفلام الأجنبية، قبل حلّها عام 1992.

هناك، بدأ إخراج أفلامٍ روائية قصيرة ووثائقية، كالقصير "على خطى بعل" (20 دقيقة، 1971)، الذي تتبّع فيه طريقة إنجاز "عاش الموت" (90 دقيقة، 1971)، المُصوّر في تونس، للإسباني فرناندو أربال. كما صوّر فيلماً عن مئوية مدرسة "الصادقية"، بالعنوان نفسه، ثم "2+2=5" (إنتاج عام 1966)، ثم "القيروان/الجامع الكبير" (1967)، و"مستقبل المرأة التونسية"، و"فرحات حشاد"، و"الحبيب بورقيبة"، إلى أفلامٍ وثائقية أخرى، عكست المنطلق الأيديولوجي للدولة، وخدمت النظام ووجهة نظره عامة.

لكنّ معظم تلك الأفلام مُجرّد تمارين، لأنّه كان موظّفاً في مؤسسة SATPEC، التي كلّفته بإنجازها، ولأنّه ـ في بداية حياته السينمائية ـ كانت الفرص المتاحة محدودة جداً، ولم يكن يملك رفاهية الرفض أو فرض شروطه، خاصة في ظلّ احتكار الدولة لتلك الصناعة. لذا، استمرّ في عمله إلى أنْ جاءت اللحظة المناسبة، التي قرّر فيها إنجاز ما يؤمن به، ويبتكر خلقاً فنّياً، بدل التكرار والدوران حول نقطة واحدة، خاصة أنّه لم يكتفِ بمرجعيته النظرية والفكرية، التي اكتسبها في معهد IDHEC، ولا بتجربة إخراج الأفلام المذكورة، بل انعكست أيضاً في احتكاكه المباشر مع مخرجين أجانب، عمل معهم كمساعدٍ، عند تصوير أفلامٍ لهم في تونس، منها "جوستين" (1969) للأميركي جورج كيوكُر، و"بيريبي" (1970) للفرنسي دانيال موزمان، و"السحرة" (1976) للفرنسي كلود شابرول، و"المسيح" (1976) للإيطالي روبرتو روسيليني.

 

 

وسط هذه التجارب كلّها، اقتنص بن عمّار لنفسه مساحة سينمائية محترمة، عكسها في أول أفلامه الروائية الطويلة، "حكاية بسيطة جداً" (1970)، الذي بفضله أخرج السينما التونسية إلى مساحة أوسع، خاصة أنّه أول فيلمٍ تونسي يشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ23 (2 ـ 16 مايو/أيار 1970) لمهرجان "كانّ" السينمائي، الدورة/المسابقة نفسها التي شارك فيها "الأرض" للمصري يوسف شاهين، و"إليز أو الحياة الحقيقية" (إنتاج فرنسي جزائري) للفرنسي ميشال دراتش. "حكاية بسيطة جداً" فاز بـ"التانيت البرونزي"، في الدورة الـ3 (11 ـ 18 أكتوبر/تشرين الأول 1970) لـ"أيام قرطاج السينمائية"، بينما فاز "الاختيار"، لشاهين نفسه، بـ"التانيت الذهبي".

كشف بن عمار موهبته السينمائية في "حكاية بسيطة جداً"، الذي تناول موضوعاً حسّاساً في تلك الفترة: الهوية والاندماج وتقبّل الآخر. قصة المخرج شمس، الذي أراد إنجاز فيلم وثائقي عن العمّال التونسيين، الذين عملوا خارج فرنسا، وعادوا إلى بلدهم، واختار حامد، الذي يقطن في الريف، لمعرفة كيفية اندماجه وتعاطيه مع زوجته الإسبانية، التي أحضرها معه من الخارج، وكيفية تعاطي الأخيرة مع بيئتها ومجتمعها وأسرتها الجديدة.

في "سجنان" (1974)، الفائز بـ"التانيت الفضي" في الدورة الـ5 (26 أكتوبر/تشرين الأول ـ 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1974) لـ"الأيام" نفسها، برزت موهبته أكثر، لكنّه مُنع، بعد اشتغال مقصّ الرقيب في أجزاء عدّة منه، إضافة الى مضايقات مارسها نظام الرئيس الحبيب بورقيبة: شهد عام 1952 بدء المعركة الأخيرة في تاريخ الكفاح التحريري للشعب التونسي، وهذه فترة تميّزت بتزايد عمليات مقاومة المستَعمِر الفرنسي، الذي أنشأ منظمة إرهابية، "اليد الحمراء"، لتصفية رموز نضالية عدّة، كفرحات حشاد، وسجنت بقية الزعماء.

بعده، استمرّت النجاحات السينمائية لعبد اللطيف بن عمار، مع "عزيزة" (1980)، المشارك في "نصف شهر المخرجين"، في الدورة الـ33 (9 ـ 23 مايو/أيار 1980) لمهرجان "كانّ": تستقرّ عائلة من المدينة القديمة في حيّ شعبي في العاصمة. عزيزة شابّة يتيمة، ستكون شاهدة على هذين الانتقال والتحوّل. يُتوفّى كبير العائلة، وينهار الماضي، وتجد عزيزة نفسها وارثةً لقرونٍ من الهيمنة الذكورية/الرجولية، وتُجبَر على مواجهة قدرها، معتمدةً على نفسها، فتبدأ العمل تحقيقاً لذاتها.

لاحقاً، أخرج أفلاماً بصعوبة بالغة، لغياب الدعم المالي، فتوقّف عن الإخراج أعواماً، بسبب التجاهل الذي عاناه. ثم عاد، مع "نغم الناعورة" (2002)، وانتهى بـ"شارع النحيل الجريح" (2010): تجربة أخرى في الإنتاج المشترك بين تونس والجزائر): استعراض حقبة زمنية من النضال التونسي، ونضال بلدانٍ مغاربية، خاصة الجزائر.

رحل عبد اللطيف بن عمار في 6 فبراير/شباط 2023، بعد أكثر من نصف قرن، أمضاها في عالم الأفلام، مخرجاً وممثلاً ومُصوّراً وتقنيّاً ومُحاضراً وكاتب سيناريو.

المساهمون