الفيلم الوثائقي في لقطة بعيدة وأخرى متوسطة

الفيلم الوثائقي في لقطة بعيدة وأخرى متوسطة

28 يناير 2021
اشتغلت الوثائقيات السورية على قراءة واقعها نقدياً وفنياً (الأناضول)
+ الخط -

تُعين المراجعات والقراءات النقدية التاريخية عن تطوّر المجتمعات على فهم الواقع، والعمل على تغييره. هذه الخلاصة توصّلت إليها أوروبا، من خلال مساهمات مفكّريها وقرّاء تاريخها المجدّدين. أفرز التعبير عن مضامين القراءات الفلسفية تياراتٍ نقدية وإبداعية جديدة، وضعت "حرية التعبير" شرطاً لتطوّرها وتجديدها. هذا لم يحدث في مجتمعاتنا العربية.

لم تخضع التحوّلات والانقلابات الحاصلة فيه للنقد التاريخي التحليلي، ولا يُستثنى منها "الربيع العربي". تجلّيات الرؤية الفلسفية العميقة للتاريخ، أوروبياً، ظهرت باكراً في سينماها، رغم حداثة وجودها. عبّرت، منذ بداياتها، عن شدّة صلة مبدعيها بموروثهم الثقافي. هذا يُفسّر أسباب التعامل النظري مع فيلم سيرغي آيزنشتاين، "المدرّعة بوتمكين" (1925)، باعتباره مُنجزاً تجاوز الفنيّ الصرف، على كثرة جمالياته، إلى التحليليّ القارئ تاريخَ ثورة 1905 التي ـ بحسب توصيف منظّريها ـ كانت "البروفة الأخيرة" السابقة على "ثورة أكتوبر 1917".

في فرنسا، كانت السينما من بين الأسباب غير المباشرة التي قادت إلى ظهور حركة 68 الطالبية. الاحتجاجات على محاولة تنحية مسؤول الـ"سينماتيك" الفرنسية هنري لانغلوا من منصبه، تشابكت مع توجّهات تيار "الموجة الجديدة" الحداثوي التي سبقتها وتناغمت ـ في لحظة تاريخية نادرة ـ مع مطالبها بالتغيير.

لا "الربيع العربي"، ولا السينما العربية، لهما المرجعيات النظرية نفسها. انطلق الحراك عفوياً، وتبعته السينما على الخطى نفسها. أدّت مجاراة الفعل، والاقتراب الشديد حدّ التلاصق من الحركات الشعبية المناهضة للظلم والعسف، إلى تضييق مسافة رؤية السينمائي للحدث. هذا يفسّر غلبة "التلفزيوني" على السينمائيّ، الوثائقي على وجه الخصوص.

لأعوامٍ، ظلّ المنتج الوثائقي متأثراً بالأساليب التلفزيونية والإعلامية. لم يرتقِ إلى الفني والجمالي إلّا في استثناءات جاءت متأخّرة. روائياً، غلب الانفعالُ على البدايات، وغاب عن أكثرها التحليل والقراءة النقدية المعمّقة للأسباب التي دعت الناس إلى الخروج ضد مستلبي حقوقهم وحرياتهم. ساد هاجس الرغبة في المشاركة وتثبيت الموقف على ما سواه، وتداخلت بشدّة نتاجات الأعوام الأولى من "الربيع" بعضها مع بعض، إلى درجة يصعب التمييز بينها.

ساد هاجس الرغبة في المشاركة وتثبيت الموقف على ما سواه، وتداخلت بشدّة نتاجات الأعوام الأولى من "الربيع" بعضها مع بعض

لكنْ، مع الوقت، ستظهر الفوارق والتَميُّزات. الفضيلة الكبرى للحراك تكمن في كسره حاجر خوف تجذّر في النفوس. وفّر هذا التحوّل المهمّ للسينما، بوصفها وسيطاً تعبيرياً، حريةً لم تعرفها السينما العربية من قبل. توغّلت الرغبة في قول الأشياء من دون خشية إلى متون الأفلام، وصار صعباً على السلطات الكارهة لها منعها. يُمكن ملاحظة ذلك التغيير بسهولة، عند مراجعة المُنجز السينمائي العربي طيلة عقد كامل من الزمن. سيلاحظ المتتبع لها أنّ الحرية المتوفّرة أحدثت تبايناً حادّاً في مستويات التعبير البصري عن مواقف السينمائيين، الفكرية والسياسية، من التحوّلات التراجيدية العاصفة بـ"الحراك" في أكثر من مكان.

لم يُغيّر الربيع كثيراً في خريطة توزيع إنتاج الفيلم العربي. طيلة 10 أعوام، ظلّت كما هي تقريباً. في البلدان المنتجة (مصر، سورية، لبنان، المغرب العربي)، واصل السينمائيون الاشتغال على موضوعات ذات مساس بالحراك، بينما ظلّت البقية تراقب وتستهلك. قلّة منها (الأردن)، حاول الاقتراب من مراكز الإنتاج بحذر. مرد ذلك عوامل إنتاجية وتقاليد صناعة سينمائية، لم يؤثّر فيها "الربيع العربي"، ولم يُجدّد في طبيعة العلاقة القائمة بين صناع الفيلم ومورثاتهم الثقافية. بقيت الأخيرة على حالها تقريباً.

لم يُغيّر الربيع كثيراً في خريطة توزيع إنتاج الفيلم العربي

قوّة تأثير التقاليد الثقافية، وخصوصية التطوّر المجتمعي في كلّ بلد أو منطقة عربية، تتجلى في سرعة ابتعاد السينمائي المغاربي عن الانغماس الكلّي بالحدث، والميل إلى مراقبته، والتروّي في معالجة جوانب منه، حسب ما يتوافق مع رؤيته السينمائية. هذا متأتٍ من شدّة تفاعل السينمائي المغاربي مع نشاط فكري ونظري مترسّخين. وجد السينمائي المغربي في ظاهرة التشدّد الديني والإرهاب، المتزامن بروزهما مع مسار تصاعد الحراك وتداعياته، ما يستحقّ العمل عليه.

للسينمائيين التونسيين السبق والغلبة في هذا التوجّه. نوري بوزيد ينشط وينجز "مانموتش" (2012)، و"عرايس الخوف" (2019). مثله، يفعل محمد عطية في "ولدي" (2018)، ومهدي برصاوي في "بيك نعيش" (2019) الذي يربط بين فساد النظام وتجذّره، وما ينتج عنه من مآس شخصية. نشاطٌ روائي يبدو معه وثائقيّ مراد بن الشيخ "لا خوف بعد اليوم" (2011)، معزولاً عن سياق سينمائيّ، يميل إلى قراءة الظواهر بعين سينمائية فاحصة في الجزائر، لا يكلّ مرزاق علواش عن الاشتغال على "الثيمة" نفسها، بأساليب سينمائية، الجماليّ فيها ثابت. تجليات هذا ظاهرة في "التائب" (2012)، و"السطوح" (2013).

مراجعة الربيع تؤشّر إلى "مناطقية" سينمائية، لم يتمّ تجاوزها إلا نادراً. كلّ بلد عربي يعالج سينمائيوه تداعيات مرور الربيع العربي عليهم. مَنْ لم يصله، يكاد يترفّع عن المشاركة. هذا لن يحدث في السينما العالمية التي لطالما كانت كونية الطابع، متجاوزة محليتها.

سينما ودراما
التحديثات الحية

تكسر التونسية كوثر بن هنية المناطقية، وتذهب إلى الموضوع السوري وتشتغل عليه في "الرجل الذي باع جلده" (2020). في التجربة السورية الكثير من ما يستحقّ التوقّف عنده، بعد أعوامٍ على انطلاق حراكها السلميّ. على عكس غيرها، استطاع كثيرٌ من سينمائييها الخروج من البلد إلى فضاءات أجنبية سمحت لهم بالتواصل والعمل على أفلامٍ، جُلّها وثائقية. يُلاحظ طوال عقد من الزمن تخلّص قسم منهم من زوائد شابت أفلامهم ولازمتها طويلاً. لم يبقَ التوثيقي الآني وحده حاضراً، إذْ جاوره الجمالي المشبع بالانفعالات، والذاهب إلى أعماق السوريّ في محنته الوجودية.

"فوضى" (2018)، لسارة فتّاحي، أحد تلك الأفلام، وفي "لسّه عم تسجل" (2018)، يعاين سعيد البطل وغياث أيوب الآخر، المتشابك وجوده مع المهاجر السوري، بلغة سينمائية تطفح جمالاً، ينافسه عليها "الكهف" (2019)، لفراس فيّاض، مع قسوة مناخه. لطالما نُسب الفضل في ذلك إلى التراكم. لا أحد ينكر حقيقة ما أضافه التراكم الكمي إلى النوعي.

لكنْ، ينبغي عدم نسيان مرجعيات سينمائية سورية، اشتغلت على قراءة واقعها نقدياً، وبعضها سبق الحراك الشعبي بأعوامٍ. أفلام عمر أميرالاي الشجّاعة، ورؤية محمد ملص في "سلّم إلى دمشق" (2013)، الكاشف عن رغبة أجيال من الشباب في الانعتاق من المغلق نحو الأفق الأرحب، كأنّه ينبئ بمجيء الحراك ـ تشير إليها. مثل هذا نجده أيضاً في "هُم الكلاب" (2013)، للمغربي هشام العسري.

سينما ودراما
التحديثات الحية

الحراك السينمائي المصري توافق، في عقدٍ من الزمن وإلى حدّ كبير، مع حركة "الثورة". يمتد ويتصاعد مع مَدّها، ويتراجع مع جَزْرها. لا يُمكن مقارنة حجم الإنتاج في أعوامها الأولى مع ما وصل إليه اليوم من انخفاض. فوّت سينمائيّوها فرصةً لتجديد اشتغالاتهم، حين انجرفت أغلبيتهم مع تياراتها. لم يأخذ هؤلاء يوسف شاهين مثالاً.

التزم هذا المخرج الألمعي سينمائياً بمراجعة تاريخ بلده المعاصر وأحداثه السياسية، من منظور شخصي يستند دائماً إلى قراءة نقدية تحليلية. حاول يسري نصر الله، في "بعد الموقعة" (2012)، الاقتراب من ذلك الاشتغال، وفي"18 يوم" (إخراج مشترك لـ10 مخرجين)، أتاح التنوّع فرصةً ليعرض كلّ واحد منهم رؤيته الخاصة للثورة، ولأسباب اندلاعها.

بالروح نفسها، المنفتحة على ربط الحدث بما سبقه من عوامل موضوعية أدّت إلى تفجيره، ينتسب "الشتا اللي فات" (2013)، لإبراهيم البطوط. في العام نفسه، أخرج أحمد عبد الله "فرش وغطا". من بين ما يُلاحظ في المشهد السينمائي المصري، تجاوز بعض وثائقياته عقدة "التفوّق النوعي"، الملازم لأفلام مخرجين غربيين، تناولوا "ثورة 25 يناير" (2011)، ومنعرجاتها. من بين مجسّديها: "نصف ثورة" (2011)، لعمر شرقاوي وكريم الحكيم، ووثائقيّ جيهان نجيم "الميدان" (2013). نتاجٌ انقطع ولم يُكتب له التواصل.

مع ذلك كلّه، يبقى فَضل "الربيع العربي" على الوثائقيّ بشكل خاص كبيراً. فللمرة الأولى، بعد عقود على ظهور السينما العربية، يجري التعامل مع الوثائقي كنوعٍ سينمائيّ، يتساوى ويتكامل مع بقية أصناف الفيلم الروائي والتحريك، وتتسابق المهرجانات السينمائية العربية على ضمّ أفضله إلى مسابقات دوراتها وبقية عروضها.

المساهمون