عدنان مدانات (2/2): المؤسسات الفنية العربية لا تُشجع النقد السينمائي

عدنان مدانات (2/2): المؤسسّات الفنية العربية لا تُشجّع النقد السينمائي

21 مايو 2021
عدنان مدانات: لا يُمكن أنْ تكون النظرية عائقاً (العربي الجديد)
+ الخط -

 

بعد جزء أول، منشور في 19 مايو/ أيار 2021، يتابع الناقد السينمائي الأردني عدنان مدانات، في الجزء الثاني من حوار "العربي الجديد" معه، قراءاته المختلفة لأحوال النقد والثقافة السينمائيين في العالم العربي تحديداً، انطلاقاً من جديده، "كتابات في فهم السينما" (2021، "دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع" في عمّان).

 

(*) لماذا تُفضّل هذا النوع من النقد، المستند إلى ظواهر سينمائية وقضايا جماليّة، على حساب قراءة الأفلام التي تظلّ مهمّة أيضاً، مع تحوّلات تشهدها السينما العربيّة ومُتخيّلها؟

ـ لأنّي أرغب في أنْ يمتلك هواة السينما حصيلة معرفية بها، تساعدهم على الحكم بأنفسهم على الأفلام، والتمييز بين الصالح والطالح. والأهمّ، أنْ يرتقوا بذوقهم السينمائي، ويفهموا أنّ السينما ليست فقط أفلاماً تنتجها هوليوود للترفيه.

 

(*) ألهذا السبب مزجْتَ في تجربتك بين الإخراج والكتابة النقدية؟ ما الذي دفعك إلى التفكير نقدياً في قضايا وإشكالات سينمائية عربيّة؟

ـ أساساً، بدأت عملي في السينما كمخرج أفلام وثائقية ـ تسجيلية. عام 1971، بدأت الكتابة، والكتابة كانت دراسات، أذكر منها دراسة تفصيلية حول دزيغا فيرتوف، وأخرى حول الفيلم السياسي كنوع فيلمي. احترافي مهنة النقد السينمائي لم يكن نتيجة رغبة ذاتية، بل لضرورات معيشية. لكنّي لم أنظر إلى هذه المهنة من زاوية مهنية فقط، إذْ خلطت منذ البداية بين نقد الأفلام والكتابة في مواضيع وقضايا سينمائية، وحاولت حتّى في نقدِ أفلامٍ، رأيتها مميّزة، المزج بين نقدها وما تتضمّنه من إمكانية طرح قضية ما.

سبق لي أنْ ضمّنت بعض هذه الكتابات في أول كتاب لي، صدر في بيروت عام 1974، بعنوان "بحثاً عن السينما". فبالإضافة إلى القضايا المطروحة فيه، أوردتُ نماذج تحليلية لبعض الأفلام، كـ"الليلة الأميركية"، منطلقاً من مصطلح "الليلة الأميركية"، الذي يعني تصوير مشهدٍ ليليّ نهاراً، باستخدام فلتر أحمر، لأناقش مسألة علاقة السينما بالحقيقة.

(*) المرض الذي ينخر الكتابة الأكاديميّة يكمن بالضبط في "نظريات السينما". منذ الثمانينيات، لم يتوقّف البعض في الجامعات والمعاهد عن إعادة تدوير هذه النظريات، وإعادة صوغها وتوليفها بطرقٍ مختلفة في كل مرّة، على حساب بلورتها في أفلام معينة. هذا يُتيح ضمنياً للنقد السينمائي التقدّم، والجمع بين الحميمي والتحليلي، وبين التاريخي والفلسفي.

ـ التساؤل غير واضح لي. لكنْ، ما المشكلة في الخوض في النظريات نفسها؟ هناك دائماً ما يمكن إضافته إلى ما هو معروف، وتعميقه وتفسيره.

 

(*) أقصد أنّ النقد الجامعي، في المغرب مثلاً، لا يُقدّم جديداً على مستوى التفكير في السينما. ما الداعي إلى إعادة شرح نظريات مارك فيرو مثلاً، إذا لم يعمل هذا الشخص على "تبيئة" النظريات ومفاهيمها، بوصفها أدوات تحليل ومعاينة، تفتح أمامه آفاقاً جديدة، ليس في السينما الغربية، بل في السينما العربية وتمثّلاتها، وهذا يُتيح للنظرية حياة أخرى في ثقافة سينمائية أخرى.

ـ أظنّ أنّ ثقافة الكاتب، أو تكوينه الثقافي، ليست مجرّد جمع معلومات وحفظ نظريات. المطلوب أنْ تنصهر المعلومات وتتفاعل كيميائياً، وتختمر في عقل المثقف ووعيه، وتصبح جزءاً من تفكيره الخاص، ما يسمح له بالاجتهاد والإضافة، وبتطوير النظريات التي تعلّمها، بما يساعده على طرح وتحليل قضايا، يُمكن أنْ تكون ضرورية، وتساهم في تطوير السينما العربية قدر الإمكان.

ذات يوم في بداياتي، كنتُ أتحاور مع صديق. لكي أبرهن على صحّة نظرتي، استشهدتُ بمفكّر أجنبي، فقال لي: "ماذا يهمّني منه؟ ربما أكون أفضل منه أنا". أعترف أنّه علّمني درساً في الحاجة إلى التفكير المستقلّ.

 

(*) هل يُمكن اعتبار أنّ النظرية السينمائية ربما تقف عائقاً أمام الناقد ـ الباحث ـ الصحافي، إنْ لم يُحسِن استعمالها في قراءة الفيلم؟

ـ طبعاً لا. لا يُمكن أنْ تكون النظرية عائقاً. لا يمكنك فهم بعض أفلام جان ـ لوك غودار وتفسيرها، من دون معرفة نظرية برتولت بريخت عن التغريب والمسرح الملحمي، ونظرية دزيغا فيرتوف عن السينما المباشرة.

 

(*) رغم أنّ كتابَك الجديد دراسات منشورة سابقاً، إلا أنّ أهميّتها تبدو بارزة وكبيرة، نظراً إلى المواضيع المطروحة فيها. إلى أيّ حد يُمكن لهذه الكتابات تحرير الثقافة العربيّة المعاصرة من سطوة الخطاب الشفهي على حساب البصري ومُتخيّله الجمالي؟

ـ أتمنّى أنْ تساهم الكتابات، وغيرها مما يكتبه باحثون عرب في السينما، في نشر الوعي بها، باعتبارها المرحلة الأنضج لتطوّر الصورة الأصل؛ وأنْ تتمكّن من جعل الثقافة السينمائية جزءاً أصيلاً من المشهد الثقافي العربي. والأهمّ، أنْ يتمتّع العربيُّ بمختلف أنواع الأفلام، كتمتّعه بقراءة أنواعٍ من الروايات، ما يساعد على بناء علاقة مع الخطاب البصري الجمالي.

لكنْ، ماذا عن المؤسسّات الفنية العربية؟ أنت تعرف أنّها لا تُشجّع أبداً خطاب النقد السينمائي، ولا تتبنّاه، ولا تُنظّم جوائز له، ولا تشجّع على الكتابة عن نقّاد ومخرجين، وحوارات معهم، لإيجاد توازنْ بين الخطابين البصري والمكتوب عن السينما العربيّة. كيف يُمكن أنْ تهتدي هذه المؤسسات إلى أهميّة الوعي بقوّة المرحلة التي نعيشها سينمائيا، عبر تشجيع الخطاب النقدي؟ باختصار: لندعو الله أنْ يهديها إلى طريق الصواب، في العلاقة مع الثقافة السينمائية.

 

 

(*) أغلب منطلقاتك المعرفية في كتابك، نابعة أساساً من السينما الغربية وصناعتها، وما يرتبط بها من قضايا وإشكالات. هل تعتقد أنّ السينما العربيّة قادرة على فهم هذه المواضيع المطروحة بعمق في تاريخ السينما الغربية، لبلورتها في منجزٍ سينمائي عربي يشهد تحوّلات جماليّة؟

ـ نشرت سابقاً دراسات كثيرة عن السينما العربية، بعضها منشور في كتبٍ، بينها واحدٌ مشترك بين 4 باحثين، هم كمال رمزي وهاشم النحاس وأنا، والراحل سمير فريد، صدر أواسط ثمانينيات القرن الـ20، عن "مركز دراسات الوحدة العربية"، بعنوان "الهوية القومية في السينما العربية". شاركتُ ببحثٍ حول "التكنولوجيا والأيديولوجيا في السينما العربية". هناك كتاب "سينما تبحث عن ذاتها" ("المؤسّسة العامة للسينما"، دمشق، 2005 ـ المحرّر)، و"أسئلة السينما العربية" (وزارة الثقافة في الأردن، 2007 ـ المحرّر).

لكنْ، ما الفائدة من كتابٍ تُطبع منه نسخٌ محدودة، ولا يحظى بالتوزيع؟

هناك قضية مهمة: من يكتبون عن الأفلام في عالمنا العربي، أي “النقّاد"، يكتفون بـ"نقد" الأفلام، ولا يتفاعلون مع كتابات أخرى، تحاول إثارة قضايا قابلة للنقاش، ما يشي بإمكانية تطوير السينما العربية. لم يطوّر أيزنشتاين فنّ السينما بواسطة نقد الأفلام، بل بالبحث النظري في ماهية السينما، وأفضل أفلام الموجة الجديدة في السينما الفرنسية كانت نتيجة تفكير نظري في السينما، بدأه نقّاد قبل تحوّلهم إلى الإخراج.

 

(*) في القسم الأوّل من الكتاب، عن تاريخ السينما العالمية، تقول إنّ "تاريخ الصراع بين السينما باعتبارها صناعة، والسينما باعتبارها فناً وفكراً، إنسانيّ النوع". هل تعتقد أنّ الأمر هكذا في البلاد العربيّة، علماً أنّه لا يوجد كتاب فكري يقرأ الصورة السينمائية كظاهرة ثقافية متجذّرة في الثقافة العربيّة المعاصرة؟

ـ في ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته، أثار النقّاد السينمائيون وصنّاع الأفلام قضايا مهمّة كثيرة في حاضر السينما العربية ومستقبلها، بمحتواها وشكلها، وبقضية الإنتاج العربي المشترك والتوزيع. مثلاً: بيان جماعة السينما الجديدة في مصر، والطروحات التي نوقشت بين السينمائيين العرب أثناء انعقاد أول مهرجان للسينمائيين العرب الشباب في دمشق عام 1972، بشعار "السينما البديلة".

هذه الطروحات توقّفت عند إمكانية حلّ التناقض بين الصناعة والفكر والفنّ في السينما. أحد الأفكار المطروحة حينها تناول ضرورة حلّ ما سُمِّيَ آنذاك "المعادلة الصعبة بين الصناعة والفن". في تلك الأعوام، كان هناك سعي سينمائي عربي مشترك إلى حلّ قضايا السينما العربية. أمّا الآن: "كُلّ يُغرّد على ليلاه".

 

(*) لماذا يتعامل النقد والصحافة مع السينما كصناعة بصريّة، لا كصناعة فكرية، تستوعب مفاهيم فكرية، يُمكنها الإجابة عن مآزقنا ونكباتنا؟

ـ التعميم هنا غير صحيح. ربما ينطبق على بعض من يكتب، خاصة من تطلق عليهم صفة "الصحافيين السينمائيين"، ولا ينطبق على جميع النقّاد المحترفين المؤهّلين.

 

(*) أي ملامح فنية وجمالية ترصدها كناقد لطبيعة السينما المنتجة اليوم عالمياً، بين ترفيهٍ ذي إنتاج ضخم، وإنتاج محدود ينتمي إلى السينما المستقلّة؟

ـ هذا سؤال مهم، يحتاج إلى دراسة طويلة للإجابة عنه. السينما المستقلّة تصنع أفلاماً تمزج بين الروائي والتسجيلي، أي ما يوصف بالدوكودراما. وهناك اتجاه متزايد إلى أفلامٍ ذاتية أو سِيَر ذاتية، يصنعها الشباب، خاصة الذين يصنعونها بالتقنيات الرقمية الحديثة. الكلام يطول.

المساهمون