سلسلة "كليوباترا"و"نتفليكس"... عنصرية لون وتهديد وجودي

سلسلة "كليوباترا"و"نتفليكس"... عنصرية لون وتهديد وجودي

30 ابريل 2023
أديل جيمس بدور كليوباترا (نتفليكس)
+ الخط -

انتقادات واسعة سببها إعلان "نتفليكس" عرض سلسلة من 4 أجزاء بعنوان "الملكة كليوباترا"، في 10 مايو/أيار 2023، إنتاج جادا بينكيت سميث، وتمثيل البريطانية الشابّة سوداء البشرة أديل جيمس. تصاعدت الأزمة في مصر، ولم تتوقّف عند حدود الانتقاد والشجب وجمع التوقيعات، إذ وصلت إلى البرلمان، مع مُطالبةٍ بحظر المنصّة نفسها، والتقدّم إلى النائب العام لإيقاف العرض أو إلغائه. كما حصل مع عرض "ستاند آب" للممثل الكوميدي الأميركي كيفن هارت، الذي كان مُقرّراً إقامته في القاهرة، في 21 فبراير/شباط 2023، بعد حملة واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً، رفضت حضوره بسبب تعليقات سابقة له حول الحضارة المصرية، تقول بـ"المركزية الأفريقية" أو "الأفروسنتريزم"، والأخيرة حركةٌ تروّج أنّ الحضارة المصرية بناها الأفارقة السود، وأنّ السكّان المعاصرين في مصر ليسوا أحفاد المصريين القدماء، بل جماعات غزاة.
وفقاً لما أعلنته المنصّة الأميركية على موقعها الإلكتروني، تنتمي السلسلة إلى الأفلام الوثائقية التاريخية. أما مُعاينة الإعلان الترويجي لها، وهذا قطعاً ليس معياراً للحكم على عملٍ لم يُعرض بعد، فتؤكّد أنّه يقترب، إلى حدّ ما، من الـ"دوكو دراما"، بقدر ابتعاده التام عن كونه وثائقياً من النوع المُتعارف عليه سينمائياً. أو حتّى من النوع الوثائقي التاريخي، المُرتكز على التأريخ والرصد والسرد التسجيلي المُتحرّي للدقّة والأمانة.


سلسلة "كليوباترا" ليست وثائقية خالصة بالتأكيد، وإنْ كان هذا النوع منتشراً جداً في التلفزيونات الأوروبية منذ أعوامٍ طويلة، خاصة القنوات التاريخية والثقافية، وتكون عادة جزءاً واحداً، لا يتعامل المُشاهد معها بجدّية، بل كمعلومات عامة، أو كتبسيط للمعارف والعلوم. غالبية هذه البرامج لا تتجاوز مدّتها ساعة واحدة، تتناول أسرار الحضارات القديمة، الغامضة تحديداً، وتُنسِب المُعجز والمُلغّز فيها، عادة، إلى غير أهلها، أي إلى قوى خارقة، أو كائنات فضائية. وتكون مصحوبة بتعليقات ممن يُطلق عليهم أوصاف خبراء ومتخصّصين ودارسين ومهتمّين، من دون تمرير رسائل سياسية أو اجتماعية أو دينية. أعمال كهذه تكتفي بالإثارة والتشويق، وتطرح المُغاير والصادم، رغم خطورتها وافتعالها وزيفها، أحياناً كثيرة.
في هذا السياق، يمكن، بسهولة، إدراج حلقات "الملكة كليوباترا"، التي أثارت المصريين تحديداً، دفاعاً عن تزييف السلسلة وانتهاكها أهمّ وأشهر وأعرق الملكات في تاريخهم القديم ووعيهم المعاصر، رغم أنّ الأمر يستوجب التمهّل، والمشاهدة أولاً، ثم يُناقش التوجّه والطرح والمعالجة، لتحليل ما يكمن في السلسلة من فكر أو إيديولوجيا ما، يدفعان إلى هذا الاتّجاه أو ذاك. فربما يكون الأمر، في النهاية، محض مُغامرة وتجريب، أو شطح فني، لا أكثر، ويكون الأمر برمّته أبسط من هذا كلّه. لكنّ آفة الهجوم والشجب والإدانة، المصرية العربية، يبدو أنها لن تتوقّف قريبا، طالما أنّ علاقتنا بالفن عامة، والسينما تحديداً، كمعنى ومفهوم ورؤية وطبيعة، لا تزال قاصرة.
الموضوع مُعقّد ومُركّب. جهلنا بأنفسنا وتاريخنا، وحاضرنا الراهن، وحتّى جغرافيتنا، يُزيد الأمر فداحةً، ويُعمّقه. بخلاف أنّه يعكس استدعاءً دائماً لفكرة المؤامرة، عند كلّ خطر أو تهديد للهوية، ما يعكس هشاشة بالغة، وجهلاً، وانعدام ثقة. هذا يُشبه، قليلاً، محاولات إرجاع جذور بعض الكلمات إلى المصرية القديمة، أو مُضاهاة وجوه وملامح مصرية بتلك التي على جدران المعابد وغيرها، لتأكيد التشابه والتطابق؛ أو اختزال العمارة العظيمة، بل بالأحرى تشويهها وإهانتها، في مسوخ ديكورية هنا وهناك، في مبانٍ وشوارع وميادين وغيرها. هذه الممارسات مؤسفة ومحزنة، لأنّها تختصر حضارة، وتؤكّد أنّ تلك علاقتك بها. علامات تجزم بوجود قطيعة هائلة، من أبرز تجليّاتها جهل الغالبية بأنّ كليوباترا ليست مصرية، بل يونانية الأصل.
من ناحية أخرى، هناك وجاهة في اعتراض المصريين غير العنصري، لأنّ المسألة ليست بريئة تماماً من جانب "نتفليكس"، وصُنَّاع السلسة، إذْ تبحث المنصّة دائماً عن إثارة جدل من خلال مواضيع مختلفة، تطرحها في أفلامها ومسلسلاتها، بتوجّهات مُحدّدة، ولدعم أفكار بعينها. طبعاً، لكلّ واحد أجندته الخاصة، ورؤيته وتوجّهه ورسالته، خاصة في ظلّ الصوابيات، السياسية والتاريخية والجنسية والنوعية والعرقية وغيرها، التي تجتاح العالم في الأعوام القليلة الفائتة. كذلك، لا نغفل أنّ رأس المال يحبّ دائماً الجديد والجذّاب والمثير للجدل، والفضائحي، أو المغلوط والزائف. لا يهمّ، طالما أنّه سيدرّ مالاً كثيراً، باجتذابه ملايين الناس إلى المُشاهدة الحقيقية، أو العابرة، أو حتّى مجرّد الفضول.
ما يؤكّد هذا وجودَ العمل إلى جانب أعمال أخرى تستكشف/تستعرض حياة وبطولات ملكات أفريقيات بارزات. طبعاً، لا شكّ أنّ هناك حضارات وممالك عظيمة في أفريقيا. لكنْ، لماذا العبث مع شخصية خالدة مثل كليوباترا، لا شكّ في أصلها؟ أمر تفضحه بجلاء أحاديث سريعةـ واردة في دعاية السلسلة على ألسنة ضيوف، توضح أنّ هناك اتجاهاً معيّناً لتأكيد وإرساء، ربما، واقع ما، بصرف النظر عن الحقيقة والتاريخ. بعض ما كتُب على الموقع الإلكتروني للمنصّة في وصف كليوباترا يقول إنّها آخر "فرعون مصري". هل الكلمة وصف عابر أو جاهل، جانبه الصواب؟ أم أنّها مقصودة لأغراضٍ إنتاجية، في سياق أعمال منتجة في هذا الصدد، لأهدافٍ متعلّقة بالصوابية السياسية والتاريخية، وغيرهما؟
هنا، تبرز مُجدداً قضية "المركزية الأفريقية"، ومعادتها لمعايير أنّ كلّ حضاري ليس أوروبياً أساساً، بما فيها معايير الجمال: بياض البشرة، والشعر الأصفر، ولون العيون مثلاً، ودفع شعوب وأعراق وإثنيات وقوميات كثيرة إلى إعادة قراءة التاريخ، ورؤيته من زاوية أخرى، غير تلك المفروضة بفعل قوة الرجل الأبيض وتفوّقه وهيمنته. حاول الأفروأميركيون، ولا يزالون، منذ قرن تقريباً، تبنّي هذه الرؤية المتمحورة حول "مركزية أفريقيا"، في قراءة التاريخ، أو إعادة قراءته، وتفسيره وتأويله، والنظر إلى العالم من هذا المنظور.

تبرز مُجدداً قضية "المركزية الأفريقية"، ومعادتها لمعايير أنّ كلّ حضاري ليس أوروبياً أساساً

نظرية تفرّعت منها عشرات المدارس والطوائف والتوجّهات والرؤى والطروحات، منها الأكاديمي والتاريخي، ومنها الديني المتشدّد والمتطرّف. لكنها أساساً حركة أكاديمية بحتة، لم تنسحب على الفنون إلا أخيراً. وبعد أنْ كان نطاقها محصوراً فنياً، باتت تتّسع، وتفرض نفسها في الأعوام القليلة الماضية.
في موسوعته "أثينة السوداء: الجذور الأفروآسيوية للحضارة الكلاسيكية" (3 مجلدات، تُرجم اثنان منها 3 أجزاء بإجمالي 1800 صفحة تقريبًا، وصدرت عن المركز القومي للترجمة في مصر، قبل عقدين تقريبًا) هناك معلومة تقول 4 أجزاء كم جزء مترجم ومن المترجم، يتصدّى مارتن برنال لمهمة إعادة تأريخ الحضارات القديمة، وإعادة تشكيل العقلية الحديثة، بعد أنْ جعلت المركزية الأوروبية من أوروبا منبعاً لكلّ إبداع فكري وفني ومعماري وحضاري وجمالي، رغم الحكمة الإغريقية القائلة أنْ لا شيء يُخلَق من العدم.

من هنا، ليس صحيحاً أنّ الإغريق صانعو كلّ شيءٍ من لا شيء، أو لم يسبقهم أحدٌ إلى ما توصلوا إليه. ولأنّ بعض الأوروبيين أنكر إسهام الحضارة المصرية القديمة في تشكيل الحضارة الإغريقية والرومانية، يُنصف عمل برنال الحضارةَ المصرية والحضارات الشرقية الأخرى، ما أحداث هزّة عنيفة لبعض المسلّمات الراسخة، خلقت واقعاً جديداً في الدراسات الكلاسيكية الأثرية والتاريخية.
طبعاً، لم يخلُ جهد برنال من مغالطات وتحيّز، أثارت جدلاً كبيراً حين صدور الموسوعة، إلى حدّ أنّ البعض وصف مؤلّفَه بالعنصرية. من الأفكار الرئيسية المطروحة أنّ أثينة، إلهة العقل والحكمة عند الإغريق، إفريقية سوداء. كما قال إنّ المصريين القدماء كانوا زنوجاً، وإنّ كليوباترا زنجية متحدّرة من سلالة النوبة. وعن عظماء الإغريق، أمثال هوميروس وإقليدس وسقراط وأفلاطون، قال إنّهم أفارقة ذوي بشرة سوداء. لكنْ، بخلاف الطرح الرصين لمارتن برنال، سواء اتفقّنا أو اختلفنا معه، أنّ هناك خطراً كبيراً، يطرح "الأفروسنترزم" ويُروّج له، ما يستوجب التصدّي له: نسب تاريخ ومنجزات وأراضي شعوب أخرى إلى غيرها، وما يتبع هذا من تزييفهم التاريخ، وفرضهم مغالطات، وطمسهم حقائق.
هذا يتجلّى، قليلاً، في "الملكة كليوباترا". فالشخصية الرئيسية ليست مُتخيّلة أو مجهولة كلّياً، بحيث يمكن تناولها وفقاً لرؤى فنية مختلفة ومتفاوتة. وبما أنّ السلسة تُقدَّم على أنّها "وثائقية"، يفترض بطرحها أنْ يختلف كلياً عن تناول الأفلام الروائية والـ"دوكو دراما"، أو ذات الطابع الخيالي البحت. مع كليوباترا "نتفليكس"، نحن بصدد هزل وتضليل وتزييف وكذب، لا كلاماً جدّياً أكاديمياً رصيناً يحترم العقول. المقصود بالتضليل والكذب، الطرح نفسه، أو اللافتة الرئيسية التي جرى تصديرها عن خلفية العمل وبطلته الرئيسية. أما العمل نفسه، كفكر ورؤية وفنيات وجماليات تنفيذ وغيرها، فلسنا بصدد الحديث عنها قبل مشاهدته.
بعد العرض، سيظهر ما إذا طرحت السلسلة جديداً، بخلاف ما أنجز في المسرح والرواية والسينما. فهل ستناقض السلسلة مسرحية "أنطونيو وكليوباترا" لويليام شكسبير مثلاً، من حيث عدم تعاطفه مع الملكة؟ أو ستتفق مع رؤية أحمد شوقي في مسرحيته الشعرية "مصرع كليوباترا"، وإظهارها ملكة وطنية مخلصة، تخشى على شعبها، وتهتم بمصلحة بلدها؟ وهذا نقيض حقيقتها لدى المؤرّخين، فهي لاهية ومخادعة في كلّ شيء، في سياستها وحبّها، ولا تعنيها مصلحة مصر، وتفتقر إلى الولاء للوطن. بينما وصفها آخرون بالدهاء والذكاء الخارق، وبالإخلاص في حبّها.

حتّى موعد العرض، والإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، يجب أنْ يُشغل البال كيفية التصدّي فنياً، لا بأي وسيلة أخرى، لأعمالٍ كهذه لن تتوقّف عن الظهور. يجب طرح أسئلة مُؤرقة: أين نحن من أهمّ وأشهر وأضخم الأفلام السينمائية المُنتجة عن كليوباترا منذ عقود؟ بصرف النظر عن المعالجة والمستوى، هل عقمت السينما المصرية، في تاريخها، إبداعاً وإنتاجاً، عن تقديم فيلم آخر أو أكثر، بخلاف "كليوباترا" (1943) لإبراهيم لاما، مع بدر لاما في دور أنطونيو، وأمينة رزق في دور كليوباترا؟

المساهمون