أوهام المشاهد... هل "نتفليكس" أداة للتغيير؟

أوهام المشاهد... هل "نتفليكس" أداة للتغيير؟

31 يناير 2022
أثار مسلسل "مدرسة الروابي للبنات" جدلاً في الأردن (نتفليكس)
+ الخط -

هدأ النقاش الذي رافق انطلاق عرض فيلم "أصحاب... ولا أعزّ" على شبكة "نتفليكس"، واختفت اتهامات "الانحلال الأخلاقي" و"زعزعة قيم الأسرة العربية" التي احتلّت مواقع التواصل الاجتماعي في الأيام الأولى التي تلت العرض. وها هو الفيلم يتصدّر قائمة الأفلام الأكثر مشاهدة في أغلب الدول العربية.
هدأ النقاش، تماماً كما يهدأ أي نقاش آخر تكون ساحته مواقع التواصل، لكن فُتح الباب مجدداً أمام علامات استفهام لا تنتهي، حول دور منصات البثّ (نتفليكس بشكل خاص) في إحداث تغيير في المجتمعات، أو مساهمتها في إرساء قيم أكثر تقدميّة في المجتمعات المحافظة، خصوصاً في العالم العربي.
عرفت "نتفليكس" (تأسست عام 1997) في السنوات العشر الأخيرة كيف ترسم صورتها بتأنٍّ وحرفية، في مختلف أنحاء العالم، ليصل عدد مشتركيها إلى أكثر من 221 مليونا نهاية عام 2021. وجاء صعود اليمين المتطرف في الولايات المتحدة (السوق الأكبر للشركة) وأوروبا، مقابل انفجار الشارع ضد العنصرية (بلاك لايفز ماتر) والذكورية (مي تو)، ليضع المنصة في موقع وُصف بـ"التقدمي"، بل ذهب البعض أبعد معتبراً "نتفليكس" منصة لليسار العالمي.
راكمت الشركة رصيداً من الأعمال التي رسّخت هذه الصورة، بداية من Orange Is The New Black (2013) الذي كان من أبرز المسلسلات التي أعطت مساحة البطولة المطلقة للنساء على اختلاف أعراقهن، وميولهنّ الجنسية وأشكالهنّ الخارجية. بدا كأن المنصة تسير باتجاه كسر السردية البيضاء التي تحكم صناعة الأفلام في هوليوود. ثمّ أتى عام 2017 ودخول دونالد ترامب البيت الأبيض، ليظهر اصطفاف "نتفليكس" بشكل أكثر وضوحاً، فضمّت بعدها بعام سوزان رايس التي شغلت منصب مستشارة الأمن القومي خلال حكم باراك أوباما، إلى مجلس إدارتها. وفي العام نفسه، وقّعت الشركة عقد تعاون مع أوباما وزوجته ميشال. وأعلنت وقتها شركة الإنتاج المملوكة للثنائي أوباما، "هاير غراوند برودكشنز" Higher Ground عن سبعة أفلام ومسلسلات ستعرض تباعاً هدفها "الترفيه والتثقيف، وجمع الأشخاص وإلهامهم".
وكلّما كان ترامب يرفع من سقف تحريضه ضد شعوب وأعراق، كانت "نتفليكس" ترفع سقف إنتاجاتها، من When They See Us، إلى Knock Down The House...


لكن سرعان ما تبيّن أن بريق الشاشة لا ينسحب على كواليس صناعة المحتوى. إذ اتّهمت الممثلة السوداء الحائزة على الأوسكار، مونيك، "نتفليكس" بالعنصرية والتحيز الجندري عام 2018. وكشفت الممثلة الشهيرة وقتها أن الشركة عرضت عليها مبلغ 500 ألف دولار مقابل عرض مسرحي خاص، وهو ما اعتبرته لا يساوي الملايين التي تقدم للبيض مقابل نفس العمل. قالت مونيك إن إيمي شومر تلقت عرضاً بـ11 مليون دولار، وكريس روتش وديف تشابيل عُرض عليهما 20 مليون دولار. لتنضمّ إليها سريعاً ممثلة سوداء أخرى هي واندا سايكس التي قالت إن "نتفليكس" عرضت عليها "أقل من نصف" ما عُرض على مونيك.
هذه الاتهامات تزامنت مع اتهامات أخرى عن تضليل المنصة لمشاهديها السود بشكل خاص، من خلال عرض ملصقات أفلام يتصدرها ممثلون سود، بينما البطولة الحقيقية في الأفلام هي لممثلين بيض، وذلك بهدف دفع المشاهدين من أصول أفريقية إلى مشاهدة هذه الأعمال.
ومع كل جدل، ومع كل دعوى إلى مقاطعة المنصة، سواء في الولايات المتحدة أو في فرنسا أو في البرازيل، كانت أسهم الشركة ترتفع، وقيمتها السوقية ترتفع، وعدد مشتركيها يرتفع، وعائداتها الشهرية ترتفع.

اتهامات واجهت "نتفليكس" بتضليل مشاهديها السود بشكل خاص

سرد ما سبق يعيدنا إلى العالم العربيّ. لم يكن "أصحاب... ولا أعزّ" أول إنتاجات الشركة العربية المثيرة للجدل. فمسلسلاها الأردنيان الخاصّان "جنّ" (2019) ثمّ "مدرسة الروابي للبنات" (2021)، اتهما بالترويج "للفجور" و"الإساءة إلى المجتمع الأردني". جدل استمرّ لأيام كذلك، ورفع العملَين سريعاً في كل مرة إلى قائمة الأكثر مشاهدة. ورغم دعوات المقاطعة، لم ترضخ المنصة وأصدرت بيانات أكدت فيها على حرية التعبير وتمسّكها بعرض أعمالها في العالم العربي. وحسناً فعلت.
وهو ما تكرّر أخيراً. فبينما كان الجمهور الغاضب مشغولاً بملابس منى زكي الداخلية، كانت الشركة تواصل الترويج لفيلمها، وتحوّله من إنتاج متواضع على المستوى الفني والمحتوى، إلى حدث ينشر على الصفحات الأولى لمواقع عالمية مثل "واشنطن بوست"، و"فارايتي"، و"فرانس 24"... 
طيب، كيف انتهى النقاش؟ تماماً كما بدأ. ضجيج هستيري، وصراخ وبيانات، ثمّ صمت تام. ضجيج فارغ، لا يبنى عليه، ولا يقود إلى مستويات أكثر جدية في التعامل مع القضايا الاجتماعية، تحديداً تلك التي تطاول النساء أو المثليين في الدول العربية. ضجيج فقط، ينزع السياسة من النقاش، ويجعل منه لحظة آنية تنفجر، وتسطّح الكلام بخفّة غير معقولة. تجعله نقاشاً أخلاقياً، دينياً، مع ما يرافق ذلك من طقوس الهستيريا الجماعية العربية، عند كل محطة يخرج فيها شكل المرأة على الشاشة أو على "تيك توك" أو على مركب على النيل، عن التعريف الرسمي لـ"المرأة المحترمة".
وأمام جموع الغاضبين المطالبين أحمد حلمي بتطليق زوجته منى زكي، أو بحجب منصة "نتفليكس" نهائياً، اختفت أي إمكانية لنقل الجدل إلى مستوى أكثر جدية.

إعلام وحريات
التحديثات الحية

وعلى أي حال، لم تعلن "نتفليكس" نفسها يوماً رأس حربة في الصراع الثقافي في العالم العربي، ولم تشهر خطاباً تتبنّى فيه مواقف تقدمية فعلية، كما فعلت على سبيل المثال عند مناقشة قانون الإجهاض في الولايات المتحدة الأميركية عام 2019. بل على العكس تماماً، اختارت عام 2018 إطلاق أول إنتاجاتها العربية الخاصة مع عرض "عادل كريم لايف من بيروت"، وهو عبارة عن 58 دقيقة من الكوميديا الرتيبة الغارقة في التنميط الجندري والعنصري والنكات الجنسية التي حتماً لا تتجرأ المنصة نفسها على بثّها عبر خدمتها في دول غربية. بعدها بعام حذفت المنصة حلقة واحدة من عرض "دليل الوطنية السريع مع حسن منهاج" في المملكة العربية السعودية، بعد تلقّي طلب خطي من "الهيئة السعودية للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات"، وذلك بعد انتقاد منهاج لولي العهد الأمير محمد بن سلمان بشأن قتل الصحافي جمال خاشقجي.
لا مفاجآت في كل ما سبق، المفاجئ وحده هو الثنائية الساذجة التي تظهر عند كل عرض جديد، فتتعامل مع "نتفليكس"، إما كشريك في نضال تخوضه نساء، ولاجئون/لاجئات، ومثليون/مثليات في العالم العربي، نحو ظروف حياة أكثر عدلاً، أو كعدو يجب محاربته حفاظاً على حياء مجتمعاتنا وبناتنا، بينما المنصة في الحقيقة شركة ترفيهية أميركية قيمتها السوقية 168 مليار دولار، وكل ما يدور حولها من جدل ونقاش وغضب وترحيب، يدور في فلك المليارات الـ168.

المساهمون