خارج الكادر داخل السينما: أهوال بلد تُعطِّل حماسة كتابة

خارج الكادر داخل السينما: أهوال بلد تُعطِّل حماسة كتابة

08 يناير 2021
ليلة رأس السنة في بيروت: من يكترث بأهوال البلد؟ (أنور عمرو/ فرانس برس)
+ الخط -

 

الرغبةُ في كتابةِ "خارج الكادر داخل السينما" تصطدم بمطبّات وأهوالٍ، بين نهاية عامٍ وبداية آخر. فقدان عاملين في السينما والتلفزيون والفنّ الغنائيّ الموسيقيّ، يترافق وغرق بلدٍ كلبنان في مزيدٍ من الانهيارات والفوضى، في السياسة والاقتصاد والمال والاجتماع، وفي الثقافة والفنون والإعلام. فقدان هؤلاء، وبعضهم عربيّ، يُثير حزناً وتساؤلات لدى لبنانيين، لارتباطٍ عميق بنتاجاتٍ لهم تحتلّ ذاكرة، وتُنعش وعياً. الوباء يفتك، ولبنانيون كثيرون غير مكترثين وغير معنيين بحرصٍ على سلامةِ ذاتٍ، وصحّةِ آخر. خرابٌ يُصيب عقلاً، ووباء يتسلّل إلى جسدٍ، وسلطة معنيّة بمصالحَ وثباتٍ لها، وعالمٌ يغرق في موتٍ وفراغ.

الرغبةُ في كتابةٍ كهذه معطوبة. كلّ شيء يهترئ. كلّ أملٍ صغيرٍ بتغييرٍ، وإنْ يكن طفيفاً، في كتابةٍ ومهنةٍ ملعونٌ. هذا بلد قاتل. هذه مدينة خانقة. هذا شارعٌ موبوء. عطبٌ ينغلُ في أعصاب وتفكير. شللٌ يكاد يقضي على رمقٍ أخير. الكتابة تحتاج إلى حيوية وحماسة، وبعض الانهيار يحثّ على حيوية كتابة وحماستها، لشدّة ما فيه من أعطالٍ. نهاية عامٍ وبداية آخر تقول إنّ شيئاً إيجابياً غير حاصل، فالتنمّر على حَذرين من وباءٍ يزداد حضوراً، وانعدام كلّ مسؤولية إزاء ذاتٍ وآخر يُصبح نمط عيشٍ يومي. تحذيرات اختصاصيين تُنبِّه إلى مخاطر مقبلة، تلقى آذاناً صمّاء، كتلك الآذان غير السامعةِ صوتاً صارخاً في برّية الدنيا، يقول بنهاية بلدٍ وشعبٍ وأحلامٍ.

ينغلق الكادر على ذاته. تختنق السينما بتلوّثٍ يتفشّى في أرجاء بلدٍ ومعمورة. تخفت الرغبة في كتابةٍ تخرج من الكادر وتبقى في السينما، لكنّها لن تختفي كلّياً. منصّاتٌ تعرض تنويعات، ومحطّات تلفزة تبثّ أفلاماً ومسلسلات، وروابط تصل من هنا وهناك. لا شيء يدفع إلى إنعاش حيوية، وتغذية حماسة. المهنة ضاغطة. الكتابة مُطالَبة بقولٍ أو سجالٍ. البلد مُصاب بوهنٍ، يتمثّل بخضوع أناسٍ كثيرين للتبجّح والتعالي و"التمرّد"، الخاطئ، على قوانين ومَطالب، بدلاً من تمرّدٍ مطلوب على قاتلي بلدٍ وشعبٍ. كورونا يتطوّر، وكثيرون في هذا البلد يتخلّفون، عيشاً ووعياً. الجهل حاضرٌ بقوّة، وبعض الجهل يبرز في ادّعاء معرفة كلّ شيء، وامتلاك حقائق كلّ شيء.

تخطو سينما البلد خطوات بطيئة إلى "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019) اللبنانية. تريد أنْ تصنع مقاربة بصرية لها، وأنْ تشتغل على مفرداتها، وأنْ تبحث في مسامها، وأنْ تكشف شيئاً من أحوالها. يُحتَفَل بمرور عامٍ على اندلاعها. تمرّ أسابيع بعد الاحتفال الناقص، والصمت طاغٍ رغم أصواتٍ "نادرة" وغير مُدويّةٍ. سينما البلد تُصاب بأضرار في المادة والروح. انفجار مرفأ بيروت (4 أغسطس/ آب 2020) يدفع إلى إطلاق صرخةٍ، لكنّ الصحراء قاحلة، والجفاف يقتلع كلّ روحٍ ونَفَسٍ.

 

 

رغم هذا، يخطو سينمائيون خطواتٍ متواضعة إلى انتفاضة واللاحق بها، وإلى تأزّم قاسٍ في الاقتصاد والمال والعيش، وإلى تفشّي وباء، وإلى انفجار مرفأ، وإلى اغتيالات وتصفيات وانقلابات داخل نظامٍ يزداد نهباً وانحلالاً وبطشاً. يريد سينمائيون عديدون استمراراً. يُصدرون بياناً عن خرابٍ وهجرة ("العربي الجديد"، 16 سبتمبر/ أيلول 2020)، لكنْ "لا حياة لمن تُنادي". يحملون تعباً وتجارب وتأمّلات وبدايات. يُصوّرون ويوثّقون ويُتيحون لأناسٍ منفذاً لقول أو لبوح. لكنْ، من يهتمّ ومن يسأل ومن يُناقش؟ لكنْ، "على من تقرأ مزاميرك يا داود؟".

الآنيّ لعنة منبثقة من وباء ومن عدم اكتراث الغلبة بمخاطره. اللعنة تخطف أفراداً وتقتل أناساً، جريمتهم الوحيدة أنّهم أبرياء من جهل آخرين وادّعاءاتهم. قرارٌ بإغلاقٍ تامٍ (7 يناير/ كانون الثاني ـ 1 فبراير/ شباط 2021)، لمرّة ثالثة، يواجههه كثيرون بدعوة إلى سهراتٍ جديدة عشية الإغلاق، لوداع بعضهم البعض، كما يقولون بتشاوفٍ ولامبالاة. صالات سينمائية قليلة تفتح أبوابها، وتُراعي قواعد سلامة صحّية، لتعرض أفلاماً لبنانية، لكنّها تخلو إلاّ من "حفنةٍ" نادرةٍ، لعلّ بعض أفرادها "مجانين سينما"، وهذا يُحسَب لهم، وإنْ تكن الخيارات السينمائية لبعض البعض عادية للغاية.

أطباء يقولون بمزيدٍ من إصاباتٍ وموتٍ في أيامٍ مقبلة، لأنّ كثيرين يُقبلون على سهرٍ وتجمّعات ولقاءات من دون وقاية. لبنانيون كثيرون يرون في الإغلاق العام ضربةً لنمطٍ يريدونه قاعدة عيشٍ، من دون أنْ ينقلبوا على نظامٍ حاكمٍ يُسبِّب انهيارات بلدٍ وناسٍ، قبل انتشار كورونا وأثناء تفشّيه. يرفضون قراراً فيه بعض حماية لهم، رغم أهمية كلّ نقاشٍ نقديّ بخصوص آلية مواجهة كورونا، لكنّهم يقبلون قرارات الإعدام اليوميّ بحقوقهم وأرزاقهم ومستقبلهم، بصمتٍ مريب.

أتوق إلى كتابةٍ تخرج من الكادر وتبقى في السينما. اللحظات الآنيّة عصيبة. القلق يُتعِب قلباً وروحاً. الخوف عظيم. رغم هذا، سيكون اللجوء إلى السينما خلاصاً مؤقّتاً. ستكون العزلة تأمّلاً إضافياً بذاتٍ وهواجس وأحلامٍ، وتفكيراً إضافياً تحثّ عليه مُشاهدات وقراءات. ستكون العزلة ابتعاداً مرغوباً فيه عن أناسٍ غير مكترثين بخلاصٍ حقيقيّ.

المساهمون