"الـ23" لراني بيطار: توثيقٌ جديد للحظةٍ لبنانيةٍ "ثائرة"

"الـ23" لراني بيطار: توثيقٌ جديد للحظةٍ لبنانيةٍ "ثائرة"

30 نوفمبر 2020
تظاهرة لأنصار "حزب الله" في محيط النبطية (25/ 10/ 2019): كلّ خارج ملعون ومنبوذ ومضروب (سام
+ الخط -

شابات وشبابٌ وسيدات يُشكّلون معاً إحدى الصُور الواقعية عن حدثٍ لبنانيّ، مُرتبط بصدام أفرادٍ مع سلطاتٍ قامعة. في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، يحدث انقلابٌ في نظرة لبنانيين ولبنانيات إلى وقائع عيشٍ في بلدٍ، يزداد انهياراً يوماً تلو آخر. يقولون في الشارع كلاماً يعكس شيئاً من قهرٍ، ومن رغبةٍ في انعتاقٍ من بؤسٍ وألم وخوف وقلق. يتحرّكون عفوياً وسلمياً، لكنّ المواجهة عنيفة. النظام اللبناني الحاكم ومليشياته أقوى من دولةٍ، يحضر اسمها من غيابٍ يؤكّد (الغياب) انعدام وجودها.

بعد 6 أيام، تعيش النبطية (جنوب لبنان) اختباراً، تظهر ملامحه على وجوه شابّة وأقوالٍ تطرح، باختصار، أسئلة بلدٍ واجتماعٍ وناسٍ. الثنائي الشيعي ("حزب الله" و"حركة أمل") يُسيطر على المدينة، الغنية بتنوّع يُثري تاريخاً من نضالٍ وطني، وذاكرة مليئة بأفعال ثقافية وعلمية وتربوية واجتماعية. هذا كلّه مُعطَّل، فالبقاء خارج الطائفة ـ القبيلة ممنوع، وكلّ خارج على الطائفة ـ القبيلة ملعون ومُطارَد ومهمَّش ومسحوق، وهذه حال بلدٍ خاضع لنظامٍ طائفي ـ قبائلي، له قواعده ومسالكه وثقافته وأسلحته.

"الـ23" وثائقيّ جديد للّبناني راني بيطار (معروض على "يوتيوب")، يلتقط ما بعد ذاك اليوم العصيب، مستعيداً بعض تفاصيله قولاً وتعبيراً وتسجيلات. يلتقي بيطار شابات وشباباً وسيّدات، لتوثيق حكايةٍ يعيشها أناسٌ يريدون وطناً لا مزرعة. الحكاية معروفة. مدنٌ لبنانية كثيرة تمارس ما يُمارسه أنصار طائفة ـ قبيلة بحقّ خارجين عليها، رغم اختلافٍ واضحٍ في حجم بطشٍ عنفي مباشر على مدنيين، يتظاهرون سلمياً ضد فسادٍ ونهبٍ وتسلّط وإقصاء. راني بيطار معنيّ بتسجيل انفعالات ووقائع وتأمّلات، يقولها هؤلاء بنبرات مختلفة، تحمل خيبة وقهراً، وإنْ تشي ـ مواربةً ـ ببقايا حلمٍ.

 

 

توثيقٌ يمزج تسجيلات بأقوالٍ، ويُمرِّر لقطات قليلة تبدو كأنّها إيحاءات وترميز، من دون إمعانٍ في تضمين "الـ23" ما يُناقض واقعيّته وحساسيّته. توثيقٌ (38 دقيقة، 2020) يؤرشف لحظات وما بعدها، لتنبيهِ مهتمّين إلى تفاصيل تكون جزءاً من عيشٍ، أو بعضَ تفكيرٍ، أو قليلاً من ذاتٍ مُصابةٍ بصدمة، ناتجةٍ من أفعالٍ يمارسها أقارب أو معارف. تقول سيّدة إنّ ميلاً كبيراً لها إلى مقاومةٍ، يتبدّل بعد 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، فذاك اليوم يقلِبُ مقاييس ويُغيّر مشاعر. الحراك مدنيّ سلميّ، لكنّ ردّ الفعل الطائفي ـ القبائلي وحشيّ وقاسٍ، وبعض صانعي ردّ الفعل أقارب وأحبّة، يُصبحون وحوشاً من أجل أمير طائفة وسيّد قبيلة. مقاومة (لن تذكر السيّدة مقاومة ماذا أو مَن، فتعبير مقاومة كافٍ لفهم وجهة السلاح "المُقاوِم"، رغم أسئلة كثيرة مطروحة حوله، سابقاً والآن) تُفرِّغ أشدّ غضبٍ بحقّ "أبنائها"، غير المنصاعين لرغبات طائفتها ـ قبيلتها.

حماسة اختيار الشارع لقولٍ سلمي تُصبح خيبة إزاء ممارساتٍ عنيفة. طلاّب وطالبات يريدون خلاصاً من بلدٍ مُصابٍ بوباء أشدّ فتكاً من كلّ وباء يُصيب جسداً. سيدات يجدن صعوبة في استكمال حياةٍ معطوبة، إذْ كنّ "قدوة" لشابات وشبابٍ، وعليهنّ المحافظة على صورة كهذه، لكنّ الخراب عظيم، والانكسار حادّ، والألم غير قابلٍ لأيّ وصف. "الـ23" مكتفٍ بما لديه من مادة مُسجّلة، ومن لقاءات حيّة مع أفرادٍ، "جريمتهم" أنّهم أبرياء، وأنّهم يريدون أبسط حقوقٍ مسلوبة، ويطلبون الأقلّ لعيشٍ هادئ.

توثيق راني بيطار يستعين بتقنيات بسيطة للحؤول دون إلغاء وقائع وحقائق. لا ادّعاء بصرياً، ولا فذلكات سينمائية، ولا تنظير وثائقياً. "الـ23" يقول، بالقليل، مسائل نابضة في يوميات لبنانيين ولبنانيات، رغم أنّ الأفق مسدود، والآنيّ مغلق على اختناقٍ وتمزّق وخيبة. بساطة التوثيق أعمق من أنْ تتلاعب، سينمائياً، بجماليات وفنيات؛ وبساطة التساؤلات المطروحة على طلاّب وطالبات وسيّدات أهمّ من كلّ تحليل وتأمّل وتفكير، رغم أهميّة كلّ تحليل وتأمّل وتفكير، مطلوبة كلّها في لحظات مصيرية كهذه، وإنْ يُعلِنُ الغدُ مزيداً من خرابٍ وفوضى وعنفٍ.

يريد "الـ23" (تقول سيّدة إنّ المعادلة متغيّرة من "ما بعد 17 تشرين ليس كما قبله" إلى "ما بعد 23 تشرين ليس كما قبله") سخريةً في مقاربته سلوكاً "رسمياً"، يتمثّل بتشبيحٍ مليشياوي تابع للثنائيّ الشيعي، وببلدية النبطية، التي تُصدر بياناً يُغيِّب حقائق مُصوّرة ومُسجّلة بهواتف ذكية، ويناقض تفاصيل يرويها صانعو اللحظة ومشاركون فيها. قبل 10 دقائق على انتهاء الفيلم (صورة: جاك حدّاد وسليم ناصيف، صوت: شربل طوق، بوست برودكشن: سليم هبر، إنتاج: راني بيطار)، يُعرضُ النصّ الكامل لبيان البلدية، إذْ يكتفي راني بيطار بنشره كاملاً بعد كلامٍ وصُور وحكايات، وانفعالاتٍ منبثقة من أعماق قلب يتألم وروح خائبة. النشر وحده، من دون تعليق صوتي ومع موسيقى خافتة جداً تنتهي قبل نهاية البيان، كافٍ لكشف الهوّة القائمة بين متسلّطين ومواطنين/ مواطنات، ولتبيان حجم التزوير والافتراء والادّعاء للأوّلين، بعد إتاحة مساحة بصرية واسعة لمواطنين/ مواطنات من النبطية، لقول تجربة المواجهة وسلوكها وتفاصيل عدّة منها.

المساهمون