الدراما الطبّية: تنويعٌ بصري يتناقض مع بلدٍ مرتبك

الدراما الطبّية: تنويعٌ بصري يتناقض مع بلدٍ مرتبك

02 ديسمبر 2022
أوليفر بلات طبيبٌ نفسيّ في "شيكاغو ميد" (داميال بوتشارسكي/Getty)
+ الخط -

تعريف "الدراما الطبية التلفزيونية" سهلٌ وبسيط: إنّها مسلسلات تجري أحداثها في مستشفيات/مراكز طبية. فيها، تُختار غرفة الطوارئ مكاناً أساسياً للحدث، أو أي قسم آخر، من دون فصلٍ تامٍ بين الأمكنة. مسلسلٌ يرتكز على "غرفة طوارئ" لن تبقى حلقاته كلّها محصورة بها، غالباً. هذه الغرفة نفسها عنوان مسلسل (E R، ابتكار مايكل كريشتن) معروضٍ، أولاً، على شاشة NBC الأميركية بين عامي 1994 و2009، له فضلٌ على انطلاقة ناجحة لجورج كلوني، مانحةً إياه نواة شهرته اللاحقة.

تاريخياً، يُشار إلى City Hospital، للثنائي والتر سالْدن (إنتاج) وكورت ستين (إخراج)، كأول "دراما طبية" في الإنتاج التلفزيوني الأميركي (1952 ـ 1953، أولاً على شاشة ABC، ثم CBS الأميركيتين). عناوين كثيرة يشهدها الإنتاج نفسه، ودول غربية مختلفة تساهم في غزارة النوع. عربياً، المشاركة خفرة للغاية، فللسعودية عملٌ واحد بعنوان 37 dc، معروضة حلقاته بين عامي 2009 و2010، كمصر تماماً: "لحظات حرجة" (2007 ـ 2012)، عن "العلاقات الإنسانية" بين المرضى والأطباء، و"ما يحدث في عالم المستشفيات من مشاكل وعلاقات يومية عابرة، في اللحظات الحرجة بين الموت والحياة"، كما في تعريفٍ رسميّ به، يُضيف أنّ شريف عرفة أول مخرج له (الموسم الأول). لكن تعريفاً كهذا يتجاهل ذكر أنّ العمل مقتبس عن Grey’s Anatomy (ابتكار شوندا رايمْز)، أكثر مسلسلات النوع شهرةً في أميركا والعالم، وأقدمها استمراراً إلى الآن (2005، شبكة ABC).

البنية الأساسية لكلّ عملٍ قائمةٌ على تشابهٍ، والاختلاف حاضرٌ في التفاصيل. الأعمال المختارة في هذه القراءة، تُعرض حالياً على شاشات تلفزيونية عربية وأجنبية عدّة (مواسم/حلقات قديمة، وأخرى جديدة)، وغالبيّتها تختار غرف الطوارئ (العناية القصوى أحياناً) مكاناً لأحداثٍ، تبدأ بوصول جرحى/مرضى، مختلفي الأعراق والانتماءات الاجتماعية والعلاقات البشرية (مع أهل وأحبّة)، ما يُتيح إنشاء مساحاتٍ عدّة لقولٍ يتناول يوميات عيشٍ، مُعظمه (العيش) مُصابٌ بأعطاب نفسية، أو خللٍ في العلاقة: أهل/أبناء ـ بنات، زواج مثليي الجنس وتبني أبناء/بنات، حبّ بين اثنين، أو علاقات مبتورة، إلخ.

العلاج غير منتهٍ، دائماً، بنجاةٍ ثابتة وأكيدة، فالعطب نفسيٌّ، أحياناً، وهذا يحتاج إلى علاجٍ آخر، له، في Chicago Med (ابتكار دِكْ وُلف وماتْ أولْمْستاد، 8 مواسم بدءاً من عام 2015، الإنتاج مستمرٌ إلى الآن، NBC)، طبيب نفسيّ يعمل، كآخرين وأخريات، في غرفة طوارئ "مركز غافني شيكاغو الطبي"، لمساعدة أناسٍ على تقبّل علاج، أو تجاوز معضلة، أو تخطّي عائق، في الجسد والروح والذات، كما في العلاقة بالآخر (أهل، حبيب/حبيبة، مثلاً). للطبيب نفسه، دانيال تشارلز (أوليفر بلات)، دورٌ في "الاستماع" إلى زملاء/زميلات المركز. هذا يُضاف إلى "تنبّه" أطباء/طبيبات وممرضين/ممرضات إلى "أوجاع" الروح والقلب، فـ"يستمعون" إليهم/إليهنّ كأنّ صداقة قديمة ناشئةٌ بينهم.

لعلّ هذا واقعيّ، لكنّ تقديمه في أعمالٍ عدّة يبدو مفتعلاً، أحياناً، كأنّه (التقديم) يهدف إلى إبراز محاسن العاملين/العاملات في كيفية التعامل مع المرضى/الجرحى، في مرحلة صعبة للغاية، تعاني الولايات المتحدّة الأميركية فيها أزمات كثيرة في الحياة اليومية، تحديداً.

التشابه بين أعمال عدّة بارزٌ في مسائل أخرى: خلافات عميقة، غالباً، بين أطباء/طبيبات، فلكلّ واحدٍ رأي وتفكير وأسلوب علاج، وأحياناً يحصل الخلاف في غرفة العمليات الجراحية. النهاية تحمل، دائماً، ترطيباً للأجواء، أو تصالحاً يُكتَشف، في حلقات لاحقة، أنّه مؤقّت، رغم أنّ شيئاً من صداقةٍ تنشأ بين البعض، إلى جانب علاقات عاطفية بين أطباء/طبيبات وممرضين/ممرضات. إضافة إلى أحوال عاملين/عاملات: ماضٍ أليم يظهر فجأة، حالة شخصية تنكشف أمام الجميع، مسائل عالقة غير مرتبطة بالعمل/المهنة.

تشابه آخر: غالبية العاملين/العاملات تتحدّث بصوتٍ أقرب إلى الهمس، ما يُذكِّر بتقنية معتَمدة في أعمالٍ متعلّقة بالاستخبارات والأمن والتحقيقات البوليسية. هذا غير شاملٍ كلّ شيءٍ، لكنّه لافتٌ للانتباه. في المستشفيات/المراكز الطبية، يتجاور الصوت الهادئ/الهمس مع نبرة عالية وغاضبة أحياناً، لن تبلغ مرتبة الصراخ، فالصراخ حكرٌ على مرضى/جرحى، بسبب ألمٍ أو غضبٍ أو قهرٍ. صراخ لن يكون، بدوره، صراخاً، كالمتداول في الحياة الواقعية. إنّه محكومٌ بنسبةٍ من "الهدوء" أيضاً.

هناك الجانب الإداريّ أيضاً، ومسألة "أخلاق المهنة" التي يُشدَّد عليها دائماً، في لقطات يُراد لها إظهار جانبٍ إنساني وأخلاقي ومهني للطبّ والتمريض، في بلدٍ (الولايات المتحدّة الأميركية)، إحدى أسوأ وأخطر أزماته، "الإنسانية" و"الأخلاقية"، كامنةٌ في النظام الصحّي.

أعمالٌ عدّة غير منفضّة عن هذا، في حلقات أو لحظاتٍ عابرة، يُعبّر فيها عن مآزق في القانون والنظام الصحّي والتأمين، فعددٌ من المرضى والجرحى فقيرٌ، لا يملك مالاً ولا تأميناً صحّياً، ما يورِّط المستشفى/المركز الطبي في مآزق. حلقات عدّة تُظهر "الوجه الحَسن" لأفرادٍ، في الإدارة أو الطبّ/التمريض، يتمثّل بأولوية العلاج، ثم إيجاد مخارج يغلب عليها "الإنساني" و"الأخلاقي"، لعلّها موجودة في أفرادٍ، لكنّها غائبةٌ في نظام صحّي متكامل. مرحلة كورونا عاملٌ إضافي لكشف تناقض حالة أميركية، اجتماعياً وطبياً وإدارة صحية: عجزٌ عن تلبية حاجة ملحّة للعلاج، نقصٌ في أدوية وأمصال، امتلاء غرف العلاج، طلب المساعدة من مستشفيات/مراكز طبية أخرى، محاولات جمّة للتعاون، وهذه الأخيرة تصبّ، أيضاً، في أهمية إظهار "الوجه الحَسن"، رغم أنّ أخلاقية المهنة لدى أفرادٍ ماثلةٌ واقعياً.

"نيو أمستردام" (ابتكار: ديفيد شولْنَر، 5 مواسم بدءاً من عام 2018، والإنتاج مستمرٌّ إلى الآن، NBC أيضاً)، وThe Resident (ابتكار: إيمي هولدن جونز وهِلي شور وروشان سَيْتي، 6 مواسم بدءاً من عام 2018، والإنتاج مستمرّ إلى الآن، "فوكس" الأميركية)، ينضمّان إلى هذا النوع أيضاً. تقديم جديدٍ فيهما، يختلف عن أعمال النوع، غير باهر وغير متميّز. الجديد والمختلف يكمنان في أداء تمثيلي، وأسلوب إخراجي، وحركة كاميرا، ولعبة مونتاج. وربما في اتّخاذ مواقف "أخلاقية" في شؤون غير طبية، أحياناً. هذا أيضاً غير باهر، رغم حرفيّته الواضحة.

جديد النوع، عملٌ بعنوان Transplant (الترجمة العربية الحرفية: زرع أعضاء). إنتاجٌ كندي (ابتكار: جوزف كاي، 3 مواسم، أول حلقة معروضة في 26 فبراير/شباط 2020، الشبكتان التلفزيونيتان: CTV الكندية وNBC الأميركية، الإنتاج مستمرٌّ إلى الآن)، يختار "مستشفى يورك التذكاري" في مونتريال مكاناً لحكاياته، المتمحورة أساساً حول شخصية الطبيب بشير "باش" حامد (حمزة حق) اللاجئ السوري الهارب من الحرب مع شقيقته أميرة (سيرينا غُلَمْغز)، بعد مقتل والديهما الطبيبين في بلدهما.

"الإرث" السوري حاضرٌ، إذْ تتراءى لبشير، بين حين وآخر، صُورٌ عن صبيّ يضع على رأسه واقياً من الأسلحة النووية، كما أنّه يتواصل مع أصدقاء باقين في سورية، بعضهم يستشيره في رأي طبي مُلحّ، فالجرحى يتكاثرون، والمخاطر الصحّية كبيرة، والموارد قليلة. إنقاذه، في بداية العمل، طبيباً يتناول طعاماً عربياً في مطعم يعمل فيه ليلاً، كفيلٌ (الإنقاذ) بإدخاله هذه المستشفى، فالطبيب يُدعى جاد بيشوب (جون هِنا)، أحد مسؤولي قسم الطوارئ فيها. يوميات القسم تترافق وسعي بشير إلى الحصول على الجنسية الكندية.

الحرب السورية واللجوء/الهجرة سمتان تميّزان العمل عن غيره من أعمال النوع. هذا جانب يحضر في التفاصيل المختلفة لحياة بشير وعلاقاته المهنية والعاطفية. التزامه الديني (يُصلّي في أوقات فراغه) لن يحول دون التأقلم مع بيئة واجتماع مختلفين عن بيئته واجتماعه، وهذا غير مانعٍ إياه من ممارسة مهنةٍ يعشقها، مع ما تتطلّبه المهنة من تواصل، حسّي ونفسي، مع نساء ورجال، لهم ثقافة تربوية وفكرية وحياتية مختلفة تماماً عنه (المثلية الجنسية، علاقات حب/جنس خارج الزواج، المساكنة... إلخ). هناك ما يحدث خارج المستشفى أيضاً، فلبشير قريبٌ لا أوراق رسمية له، ومُلاّك الشقق غير مرتاحين له ولشقيقته، ما يدفعه إلى تغيير الشقق 5 مرّات في عامين تقريباً.

العمل غير محصورٍ في المستشفى، وهذه ميزة إضافية له، إذْ يندر لأعمال أخرى أنْ تخرج من أمكنتها. الخروج، المشترك بين أعمال عدة، مطلوبٌ، و"شيكاغو ميد"، مثلاً، يُبرز طبيباً في "قسم الطوارئ" له ماضٍ في عالم الشرطة والتحقيقات، ما يضعه، أحياناً، في مواقف صعبة للغاية. فحدسه الشرطيّ يُنبّهه إلى أنّ هناك مرضى/جرحى مرتبطون بأعمال جُرمية، لكنّ أخلاقية مهنة الطبّ تمنعه من فضحهم. هذا غير مانعٍ إياه من التورّط مع محقّقة متخفيّة، يرتبط معها بعلاقة حبّ، ويُساعدها في فضح عصابة.

هذا تنويعٌ يختبره صنّاع "الدراما الطبية"، التي تتفرّع منها أوصافٌ أخرى، كحال Grey’s Anatomy: دراما طبية، دراما رومانسية، كوميديا سوداء ودراما المجموعة (تتألّف الأخيرة من ممثلين/ممثلات أساسيين تُخصّص لهم فترات متساوية لكلّ واحد/واحدة منهم، في كلّ حلقة).

تنويعٌ بصريّ على ثيمة واحدة: الطبابة. غالبية الحلقات في معظم الأعمال مليئة بلحظات مؤثّرة للغاية، إنسانياً وأخلاقياً. لكنّها مليئة أيضاً بنقدٍ مبطّن أو موارب لأوضاع عامة في بلدٍ مرتبك، اجتماعياً وصحّياً وسياسياً على الأقلّ.

المساهمون