"يوم العلم": شون بن مُمثلاً أفضل منه مخرجاً

"يوم العلم": شون بن مُمثلاً أفضل منه مخرجاً

28 يناير 2022
شون بن مُقدّماً "يوم العلم" في مهرجان "كانّ" 2021 (كايت غرين/Getty)
+ الخط -

 

لم يكتفِ شون بن بعمله كممثل. قدّم أدواراً مهمّة في هذه المهنة، التي نال بفضها جائزتي "أوسكار" و"غولدن غلوب"، وتكريمات وترشيحات وجوائز. أراد أن يكون له دور أوسع في السينما، فاختار الإخراج، ليحقّق ما لم يصل إليه في التمثيل، الذي كان يتلقّى من أجله الأوامر، ويُنفّذ البرامج، ويعيش الشخصيات.

أراد أنْ يحرّك أشياء، وأنْ يُقدّم رؤية. لهذا، اقتحم مجال الإخراج بثقة كبيرة. نجح في أفلامٍ، ولم يوفَّق في أخرى. لكنّه لم يتوقّف عن ممارسة هذا الشغف، رغم تباعد المسافة الزمنية بين فيلمٍ وآخر، إذْ امتدّت الفترة إلى 5 أعوامٍ بين أفلامه، كالحاصل بين "حارس العبور" (1995) و"الوعد" (2001)، اللذين مثَّل فيهما جاك نيكلسن، وبين "إلى البرية" (2007)، و"الوجه الأخير" (2016، تمثيل خافيير بارديم)، الذي شارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ69 (11 ـ 22 مايو/أيار 2016) لمهرجان "كانّ" السينمائي، وهاجمه النقّاد. عاد بن إلى المهرجان نفسه بعد 5 أعوام، مُشاركاً في المسابقة الرسمية لدورته الـ74 (6 ـ 17 يوليو/تموز 2021) بـ"يوم العلم (Flag Day)".

جديده هذا مقتَبسٌ من كتاب "Flim-Flam Man: القصّة الحقيقية للحياة المزيّفة لأبي" (2004) لجينيفر فوغل (سيناريو جَاز وجون ـ هنري باتروورث)، التي كتبته استناداً إلى حياتها في شبابها، ساردةً فيه علاقتها بأسرتها. لعلّ الرابط العاطفي العميق بين الأب وابنته دفع بن إلى إخراجه، مؤدّياً فيه دور جون فوغل، والد جينيفر، التي أدّت دورها ديلان، ابنة شون.

يطرح "يوم العلم" أسئلة قلقة كثيرة عن حقيقة العاطفة والرابط الأسري بين جون وجينيفر. علاقة معقّدة وغامضة، يصعب فهمها. فالأب مُتلاعب وغريب ومزيّف وغير مسؤول، لكنْ تجمعه بابنته عاطفة قوية وحبّاً عميقاً ومتبادلاً بينهما. مع هذا، لا يقوم بأيّ جهد للحفاظ على هذه العلاقة. يتلاعب بالوقائع والحقائق، مُظهراً لها أشياء غير موجودة لتنبهر به وتحبّه أكثر، ونجح في هذا دائماً، رغم تحذيراتٍ لها من مُقرّبين إليها. حتّى بعد تخلّيه عن أسرته، زوجته باتي (كاثرين وِينِكْ) وابنه نِكْ (3 ممثلّين أدّوا هذا الدور في أعمارٍ مختلفة للشخصية: كول فْلِن وبَكِم كرافورد وهوبر بن)، تاركاً الجميع يواجهون مصائرهم ومعاركهم مع الحياة وحدهم، من دون بيتٍ يستقرّون فيه، ووظائف تؤمّن لهم مصدراً مالياً لدفع مصاريف الحياة، ومن دون أنْ يسأل عنهم أبداً.

رغم هذه التصرّفات، التي يُفترض بها أنْ تُحرّضها على كُرهه، لم تتخلّ جينيفر قط عن الحبّ الذي يجمعها به. كانت تراه بعين مختلفة، لأنه عرف كيف يصل إلى قلبها، فهو أحبّها بصدق، لكنّه لم يُضحِّ من أجلها، بل واصل طَيشه، ولم يلتفت إليها، رغم علمه بهذا الحبّ الكبير. بعد أن أصبحت شابّة، حاولت جينيفر إصلاح حاله، لكنْ من دون فائدة، مع أنّه أظهر لها بأنّه تغيّر. سُجِن لارتكابه جرائم عدّة، وبعد إطلاق سراحه، أراد مُصالحتها، مُعلناً فرحه بها لتخرّجها من الجامعة، ولأنّها أصبحت صحافية ناجحة. لم يستثمر هذا، بل عاد إلى ارتكاب الجرائم مُجدّداً، ليواجه مصيره المحتوم. أخيراً، تعطّلت تلك العلاقة العاطفية المعقّدة، بعد أنْ أنهى حياته بطريقة مأسوية.

إخراجياً، أنجز شون بن فيلمه ببناء كلاسيكي عادي، يُمكن معه توقّع الأحداث بسهولة تامة. اعتمد أسلوب "الراوي العليم"، على لسان جينيفر، إضافةً إلى الـ"فلاش باك"، التي تلاعب بها زمنياً بين حين وآخر، خاصّة أنّ مشهد الافتتاح (مُطاردة شرسة من طائرة عمودية وسيارات شرطة) هو نفسه مشهد انتهاء العلاقة بين الأب وابنته، وفيه وُضِعَ حدٌّ للمشاعر، بتصوير تلك المطاردة ونقلها على الشاشة، فتابعتها جينيفر في مقهى، كانت تُجري فيه حواراً صحافياً. عندها، تحرّرت عاطفياً، مع إطلاق جون فوغل رصاصة على رأسه، خاتماً بها تلك المطاردة الشرسة.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

هذا الانتقال الفنّي من مشهدٍ/حدث إلى آخر بُنِيَ على ما تختزنه الذاكرة من أحداث الماضي. كما اعتُمِد على لازمة "يوم العلم"، العيد الذي يحتفل به الأميركيون سنوياً، والذي يُصادف أيضاً عيد ميلاد جون. في هذا السياق، تقول والدته لزوجته كاتي، التي هجرها: "لا تثقي في شخص وُلِد في عيد العلم"، فجون يعتقد أنّ كلّ أميركا تحتفل بعيد ميلاده. أكثر من هذا، سيكون اليوم نفسه تاريخ موته في تلك المطاردة. في الفيلم، معطيات ذكية تكون بديلاً عن الحوار أو الصُوَر، في أفضل المشاهد تأويلاً، كذاك الذي حاول فيه زوج الأم اغتصاب جينيفر في غرفتها، وعندما وجدتها أمّها تبكي، قالت لزوجها: "لماذا أخطأت في دخول الغرفة؟".

في صباح اليوم التالي، تناول الجميع الإفطار كأنّ شيئاً لم يحدث، فالأم منشغلة بقراءة كتاب "قصّة الناجين من جبال الأنديز (Story Of The Andes Survivors)" للبريطاني بيرس بول ريد (1974)، عن حادثة سقوط الطائرة الأوروغوانية (13 أكتوبر/تشرين الأول 1972)، التي نجا فيها مسافرون عديدون، لكنّ أحداً لم يعثر عليهم. وبعد أسابيع، بدأ الناجون يأكلون الجثث التي لم تتحلّل بفضل الثلج (عام 1993، أنجز فرانك مارشال فيلم "أحياء"، مقتبساً إياه عن الكتاب نفسه). أيّ أنّ الضرورة تُحتِّم عليهم فعل ذلك، وهذا إسقاطٌ على وضع باتي، التي وجب عليها التغاضي عن اغتصاب زوجها لابنتها، فالزوج يتكفّل بالمصاريف كلّها، ووالد جينيفر تخلّى عنهم، تاركاً إياهم في تلك الحالة المزرية. حبّها لوالدها، رغم كلّ شيء، دفعها إلى السفر إليه في تلك اللحظة الفارقة. في ختام الفيلم، تحدّثت كراويةٍ، واصفةً إياه بهذا: "أراد كثيراً أنْ يترك بصمته، وفعل هذا بطريقته الخاصة. ترك درباً من المخطّطات الفاشلة، والنقود المهدورة، والقلوب المفطورة".

نجح شون بن أمام الكاميرا أكثر من نجاحه خلفها، فتأديته دور جون فوغل باهر: رجلٌ فوضوي، لم يحمِ مشاعر ابنته، بل استحوذ عليها عاكساً إياها في ملامح وجهه وصوته وتصرّفاته. هذا يوحي بأنّه درس الشخصية جيداً، وأحسّ بأبعادها وعمقها، فأشرك ابنته ديلان وابنه هوبر فيها. أمّا أداء ديلان فعاديّ، إذْ لم تنعكس المشاعر العميقة على ملامح وجهها، خاصّة عند التقاط صورة مقرّبة له، كما في مشهد وفاة والدها الذي شاهدته على التلفزيون، إذْ بدت كأنّها لم تُخرج المشاعر الكبيرة، أو لم تستطع أنْ تعكسها كما ينبغي. في المقابل، تمكّن ممثلون آخرون من مسايرة قوّة أداء شون بن، ككاثرين وِينِكْ، في دور الزوجة المفجوعة والمجروحة، أو جوش برولِن في دور الخال، رغم أنّه دورٌ صغير، لكنّه إضافةٌ.

"يوم العلم" محاولة أخرى لشون بن لترسيخ اسمه كمخرج. أظهر أنّه يملك الأدوات المناسبة للمهنة، لكنّه لا يذهب فيها إلى فضاءاتٍ، تجمع التميّز الحقيقي ببصمةٍ ثابتة. هذه الخاصيّة تأتي عادة من التجديد، واستحضار المختلف، في المعالجة والموضوع. في الوقت نفسه، أظهر أنّ موهبته الحقيقية والراسخة كامنةٌ في التمثيل، إذْ يسعه ـ بأدائه وعيشه دوره بإتقانٍ ـ أنْ يُقنِع ويُثير الإعجاب، لأنّ لديه تلك البصمة، وذاك الحضور الوازن.

المساهمون