"يهوذا والمسيح الأسود": الخيانة متساوية سينمائياً

"يهوذا والمسيح الأسود": الخيانة متساوية سينمائياً

12 يوليو 2021
لاكيث ستانفِلْد: الوشاية خيانةٌ (Getty)
+ الخط -

لم يكتفِ المخرج شاكا كينغ، في بداية فيلمه "يهوذا والمسيح الأسود" (2021)، بعبارة "مستوحى من قصّة حقيقية"، ليعرض على المُشاهد مادة تاريخية حقيقية، يُثير بها انتباهه؛ بل ذهب أكثر من ذلك: أعاد تمثيل مشهد المُقابلة التلفزيونية الشهيرة، التي نقلت اعترافات ويليام أونيل، مخبر "أف بي آي" (مكتب التحقيقات الفيدرالية) المتسلِّل إلى "حزب الفهود السود"، وفيها طرح عليه مذيع برنامج "عيون على الجائزة"، في النصف الثاني من عام 1989، سؤالاً مُهمّاً عن رأي أبنائه عندما يعلمون بحقيقته. لكنّ كينغ لم ينتظر الإجابة، فقطع المشهد، وذهب مباشرةً إلى سرد وقائع فيلمه، طارحاً على الجمهور التصوّر الشامل لعمله، وكاشفاً طريقة مُعالجته من دون أن يلجأ إلى تقنية "خلق" المقلب الدرامي.

هذا يحصل بدءاً من العنوان: "يهوذا والمسيح الأسود"، الذي يحيل مباشرةً إلى مُنطلق الخيانة الحاصلة بين يهوذا الأسخريوطي والمسيح، بعد أنْ "باعه" إلى أعدائه وجلاّديه مقابل "حفنة من الذهب"، من دون مراعاة ما كان بينهما من ودّ. هذا حدث حرفياً بين الشخصية الرئيسية، فْرد هامبتون (دانيال كولُوَا)، والواشي وليام أونيل (لاكيث ستانفِلْد)، الذي باع صديقه ورفيقه في الحزب من أجل بضعة دولارات وامتيازات معينة. ثم محاكاة المقابلة الشهيرة لهذا المخبر، كأنّ كينغ قدَّم معظم أوراقه في عملية البناء السردي وطريقة المعالجة في الدقائق العشر الأولى. لكنّه كان أذكى من ذلك، لامتلاكه أوراقاً أقوى وأهمّ من تلك العناصر الكلاسيكية، التي تحيط عادةً شخصية الواشي أو المخبر بهالةٍ من الغموض، لصنع الإثارة، وشدّ الجمهور حتى نهاية الفيلم، أو الاعتماد على السرد العكسي والـ"فلاش باك"، الذي يعود تدريجياً بالأحداث إلى الماضي، ثم ينتهي الفيلم بالحاضر، وحلّ العقدة بانتصار البطل، والقضاء على الشرير.

شاكا كينغ رسم خطّاً مُستقيماً في عملية سرده، مُقدّماً المعطيات وفقاً لسياقها التاريخي، ومنطلقها الجمالي، اللذين أثّثهما بديكور ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته، سيارات ذات ألوانٍ مُختلفة، وإضاءة متنوّعة على مداخل الحانات، وطاولات الـ"بيلياردو"، وطريقة اللباس التي راعى فيها كلّ جهة، وكلّ ثقافة.

لم يعتمد شاكا كينغ على ممثلين نجوم، يمنحون العمل زخماً إعلامياً، كدنزل واشنطن وجيمي فوكس وويل سميث وفورِسْت ويتايكر، وغيرهم من الممثلين السود من الصف الأول. اكتفى بممثلين عاديين، سَيّرهم كما ينبغي، وأعطاهم سلوكيات الشخصيات الحقيقية، فكشف انفعالات فْرد هامبتون وخطاباته الحماسية والعاطفية، وأثار إحساساً بتلاعب ويليام أونيل، وصراعه مع ضميره، وتأثّره بهامبتون، وميله الكبير إليه. لكنّ أساليب "المكتب الفيدرالي للتحقيقات" ـ التي أمسكته من اليد التي تؤلمه، وكانت أكثر فاعلية وخبثاً منه ـ تعاملت مع الموقف، وسيطرت عليه من الجوانب كلّها. كما كان للشرطيّ الأبيض، روي ميتشل (جيسّي بلامنس)، دورٌ حيوي في شخصية من يؤدّي عمله كما ينبغي، لأنّه كان يرى أنّ لـ"الفهود السود" والمنظمة العنصرية البيضاء "كو كلوكس كلان" منطلقاً وهمجية واحدة. ومع الضغوط المستمرة لرؤسائه، أصبح هو الآخر عنصرياً، في تصرّفه على الأقلّ.

أظهر "يهوذا والمسيح الأسود" صفحةً أخرى من كتاب العنصرية، التي لطّخت تاريخ أميركا، بإعادة إحياء عملية التصفيات الخارجة عن القانون، التي كانت تقوم بها الأجهزة الأمنية الأميركية خارج نطاق العدالة، وبمباركة صنّاع القرار، وتحرّشها الدائم بمشاريع السود، خاصة تلك التي تهدف إلى توحيد الجماعات والتنظيمات على نهج واحد. هذا فعلته مع مكتب "الفهود السود" في منطقة إلينوي في شيكاغو، الذي يقوده فْرد هامبتون، الساعي إلى توحيد التكتلات كلّها لرجال عصابات السود، والمنظّمات الدينية، والملوّنين المُضطهدين، وصولاً إلى الفقراء البيض، الذين يعيشون على هامش المدن.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

استطاع هامبتون أنْ يُقنع كثيرين من هؤلاء، ودخل في مشاريع تأسيس عيادات طبيّة ومدارس ومطاعم مجانية، انطلاقاً من فكره الشيوعي، الذي يسعى إلى هدم الرأسمالية المتوحّشة، التي كان يرى أنّ زوالها سبيلٌ وحيد إلى القضاء على العنصرية. لذا، وجدوا فيه خطراً كبيراً، وجهدوا في تقويض مشروعه، والقضاء عليه، بتصفيته جسدياً، هو ومن كان معه. حينها، نصحته جماعته بالهروب إلى كوبا، أو السفر إلى الجزائر والعيش فيها، كما فعل إلرِدج كليفر وأعضاء آخرين، عند شعورهم بتهديدٍ حقيقي من الشرطة.

استطاع شاكا كينغ أنْ ينقل، في فيلمه الدرامي التاريخي، شعور القهر والظلم والتهميش، الذي يحسّ به الفرد الأسود، في مواجهة عنصرية الرجل الأبيض، مالك القوّة والسلطة. سردية الوجع والألم نقلها كينغ عبر أداء الممثلين، الذين عاشوا القصّة كأنّها أحداثها تحصل في اللحظة التي يُمثّلون فيها، إلى درجة أنّ المُشاهد بات جزءاً من عملية التقبّل القصصي، يبحث عن الحلول مع الشخصيات الذين حاصرتهم بنادق الحقد من كلّ زاوية.

خارج سياق الفيلم وتوجّهاته، يصطدم المُشاهد بالواقع الحقيقي الذي عاشه فْرد هامبتون، الذي قُتل بعمر 21 عاماً، والذي أوجد توجّهاً أدّى إلى ظهور أعداءٍ فكّروا في التخلّص منه. هذا حدث أيضاً مع مُساعديه. الدقائق الـ126 للفيلم غير كافيةٍ لإظهار الحقائق كلّها، لكنّ مُعطيات العمل تُحرّض على البحث أكثر لمعرفة التفاصيل المخبّأة، بفضل تقديمها بطريقةٍ ذكية، تشحن المُشاهد بأسئلةٍ لا تنتهي، عن العنصرية، وعمن حاول الوقوف في وجه التاريخ، ومتغيّراته.

أيديولوجياً، اتّخذ شاكا كينغ مسافة واحدة بين الرجلين الأبيض والأسود، منتصراً فقط للّحظة التاريخية ولوقائعها المثبتة. لم يندفع إلى تقديم صُور ومَشَاهد نموذجية عن الرجل الأسود، متعاملاً بموضوعية مع شخصية ويليام أونيل، رغم أنّه عميل فيدرالي وواشٍ، وعدو شريحة واسعة من السود، مُقدّماً إياه بطريقة حافظ فيها على إنسانيته، وعلى منطلق الخطأ والصواب الذي يصيب كلّ فرد. في أحد المشاهد، صوَّر شرطياً أبيض جريحاً يستعطف رجلاً أسود يُصوّب بندقية إليه، لكنّ الأخير لم يأبه به، فأطلق عليه الرصاص. مشهد يؤكّد احتفاظ كينغ، الأسود البشرة، على مصداقية طرحه، ما يُزيد في عملية الفهم والتلقّي الإيجابي.

يختم كينغ فيلمه باستعانته بالمقابلة الأرشيفية الحقيقية مع المخبر ويليام أونيل. علماً أنّ فيلمه بدأ بإعادة تمثيلها، مع توقّفه عند طرح سؤال على أونيل عن رأي أبنائه فيه بعد بثّ المقابلة. الإجابة تظهر في المقابلة الأرشيفية الحقيقية، التي ختمت "يهوذا والمسيح الأسود"، ما كشف مفاتيح كينغ، الذي فتح بناءه السردي وأغلقه بطريقة مُبتكرة.

المساهمون