يهوذا والمسيح الأسود... حكاية القاتل والقتيل معاً

يهوذا والمسيح الأسود... حكاية القاتل والقتيل معاً

23 فبراير 2021
أدى دور فريد هامبتون الممثل دانييل كالويا (Imdb)
+ الخط -

عندما بدأت المعلومات بالتكشف عن فيلم Judas and The Black Messiah، كان رد الفعل الأول طبيعياً، بالنظر إلى ازدياد عدد الأفلام الحاملة لطابعٍ سياسي أو احتجاجي مباشر، في الفترة الأخيرة، هوليوودياً وعالمياً، باعتبار أن الأفلام تستجيب بالضرورة للعالم الذي توجد فيه، كما يقول ريان جونسون، في حديثه عن فيلمه Knives Out.

أما الثاني، فكان أقل وضوحاً، ومتعلقاً بكل الأفلام التي تجسّد لحظات أو أحداثاً تاريخية مثيرة للجدل، وأميل إلى الترقب، وانتظار ما الذي سيقدمه هذا العمل الجديد، إذ إن فكرة العودة إلى مرحلة حساسة من تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، كتلك التي نشط خلالها حزب الفهود السود، واختيار شخصيةٍ بحجم فريد هامبتون لتقديمها الآن، ضمن مناخٍ سياسي متذبذب وحوارٍ أوسع عن العرق والهوية، ستُمرِّر الفيلم لا شك على العديد من النقاشات حول رسالته ودقته التاريخية وغيرها. ومن المنصف القول إن الفيلم بعد عرضه اليوم، استطاع تجاوز معظم الاختبارات، وتوقف عند بعضها، وفاجأ الجمهور ببعضها الآخر، عبر مادة تستند إلى التاريخ (بكثيرٍ من الحرية الفنية) والأسلوب الفني والأداء المبهر.
 
ماذا يجري في الفيلم؟
كما يوحي العنوان، لا يروي الفيلم قصة فريد هامبتون، المسيح الأسود (يؤدي دوره دانييل كالويا) وحسب، بل يسرد أيضاً قصة يهوذا الذي أوقع به وهو ويليام أونيل (يؤدي دوره لاكيث ستانفيلد). ويبدأ الفيلم عند اللحظة التي يقع خلالها أونيل في قبضة الشرطة لسرقه سيارة وانتحاله صفة عميل في مكتب التحقيقات الفيدرالية، ومن ثم تخييره بين السجن أو اختراق صفوف حزب الفهود السود، الذي يصفه برنامج الاستخبارات المضادة بأكبر تهديدٍ للولايات المتحدة.

إن الموازنة بين هذين الجانبين؛ أي بين البطل المثالي الذي سندرك خلال الفيلم أنه يعرف موقعه جيداً في هذا العالم، والآخر الذي سيقع ضحية خياراته والتناقضات التي سيعيشها، هي ما تمد الفيلم ببعض عناصر التشويق والصراعٍ السيكولوجي الذي نعرفه في أفلامٍ مثل Donnie Brasco أو The Departed، مع فوارق هائلة في ما يتعلق بدور أجهزة تطبيق القانون، كما سنراها في Judas and The black Messiah، وسنترك هذه النقطة لمراحل لاحقة.

سينما ودراما
التحديثات الحية

يبدأ أونيل باختراق الحزب والترفّع داخل صفوفه، بينما يدخل هامبتون في علاقة غرامية مع ديبورا جونسون (تؤدي دورها دومينيك فيشباك)، ويسعى نحو تعزيز صفوف الحركة وبرامجها وصناعة تحالفات مع حركات أخرى وعصابات حتى. ومع تعاظم نفوذ الحركة وأثرها في شيكاغو، يبدأ روي ميتشل، عميل مكتب التحقيقات المسؤول عن أونيل (يؤدي دوره جيسي بليمونز) بالضغط أكثر على أونيل، بحثاً عن مزيد من المعلومات، سواء عبر تقديم نفسه للشاب كشخصيةٍ أبوية، أو عبر المقابل المادي. 

يدخل بعدها هامبتون السجن بسبب تهمةٍ سخيفة، وتعاني الحركة من بعض الركود إثر ذلك، إلا أن اشتباكاً بين رجال الشرطة وبعض أفرادها، وحرق الشرطة المتعمد لمقرهم، يُحدِث أثراً عكسياً يُترجَم عبر الجهود الجمعية لإعادة تهيئته، التي يُشارك بها أونيل بعد أن صار المسؤول الأمني للحزب في شيكاغو. 

يخرج هامبتون من السجن بكفالة منتظراً الطعن بحكمه، ويكتشف أن ديبورا حامل بطفله. ومع تزايد حدة الصدامات بين أعضاء الحزب والشرطة، تزداد خطابات وحضور هامبتون تأثيراً، ويبدأ ميتشل بالقلق من ولاء أونيل الحقيقي أو تغيره. وحين يُرفَض طلب الطعن، يقرر مكتب التحقيقات اغتيال هامبتون وإسكاته، ويقع على عاتق أونيل دس مخدر في شرابه، ومد المحققين بمخطط البيت لتسهيل اقتحامه، وهو ما يحدث نهاية الأمر. 

تقتحم الشرطة ليلاً منزل هامبتون، بعد رفضه استعمال نقودٍ وُفرت له للهرب، وقرر تحويلها لبناء مركزٍ صحي، وتغتاله أثناء نومه. ونرى بعدها أونيل مع ميتشيل الذي يكافئه، ويُختَم الفيلم بمعلوماتٍ عن الأشخاص الحقيقيين وما حل بهم، ومقطعٍ من مقابلة حقيقية مع أونيل، الذي نعرف أنه أنهى حياته في يوم بث المقابلة.

 
الأداء والراهنية والتاريخ
تصف صحيفة "ذا نيويورك تايمز" الفيلم كنتاجٍ لهوليوود خلال إحدى لحظاتها الأكثر راديكالية. في الواقع، إن الخلاصة السابقة، تبدو مفهومةً أكثر حين يوضع الفيلم موضع المقارنة مع بعض الأفلام الأخرى التي تتصدى لموضوعات مماثلة. ففي Judas and The Black Messiah، لا وجود لشرطيٍ جيّد ضمن سلة تفاح فاسدة، أو أي حضورٍ لشخصية المخلّص الأبيض.

وعلى العكس، فإن الفيلم يوضح موقفه من الحكومة بشكلٍ لا يقبل الشك، سواء ابتدأنا بجون إيدغار هووفر، رئيس مكتب التحقيقات حينها، والأشهر ربما في تاريخه، وصولاً إلى ميتشل نفسه، وطرقه غير المباشرة، وأكثر أجهزة تطبيق القانون مباشرةً، ممثلة برجال الشرطة المعروفين عادةً بإبدائهم أكثر أشكال العنف وضوحاً.

وبينما تتفاوت هذه العناصر بجودة تجسيدها على الشاشة، من الطبيعي أن يكون أكثرها حظوةً هو ميتشل، الذي يذكرنا دائماً بتأييده للحقوق المدنية ضمن الحدود التي يراها مقبولة، ويشبه الحزب بحركة الـ كو كلوكس كلان، ويتلاعب بـ أونيل عبر استعراضاتٍ للامتيازات التي يمكن أن ينالها، وما نراه لاحقاً حين يتحدث عنه أمام مدرائه بشكلٍ مخالف للود الذي يبديه تجاه أونيل. وحتى حين يبدي تحفظه على بعض طرق المكتب في محاربة الحزب، فإن هذه التحفظات سرعان ما تصبح بلا معنى ولا تشكل أي عائقٍ أمام ميتشل في إكمال عمله.

على الجهة الأخرى، سيصعب علينا أن نجد الغريم مجسداً بالوضوح ذاته. فكما يوحي العنوان، سيتم التركيز على بطلين اثنين، لكن موقع الحدث وطرفه وزمانه هي عوامل لها دورٌ مهم أيضاً. فرغم محاولة الفيلم تسليط الضوء على ما يجري في المشهد العام، كبرامج الحزب لتوفير وجبات الإفطار المجانية والصحة والتنظيم الشعبي، فإن هذه الأحداث لا تأخذ دائماً حيزها الذي تستحقه، ولا تكون دائماً بؤرا لتفاعل الشخصيات الرئيسية معها، بل أشياء تحدث في الخلفية. 

يأتي الفيلم كنتاجٍ لهوليوود خلال إحدى لحظاتها الراديكالية

ولمّا كان تبني موقفٍ من إرث حزب الفهود السود أمراً بالغ التعقيد بشكلٍ عام، ومهمةً مستحيلة لفيلمٍ واحد بشكلٍ خاص، لذا فإن الفيلم يحدد زاويةً معينة يتناولها ويقدم الأمور من منظور هامبتون، الذي كان اهتمامه منصباً على دراسة العنصرية من منظورٍ مادي، وتداخل مفهومي العرق والطبقة في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما نلحظه أثناء تشكيل تحالف قوس القزح، الذي وحّد السود ومجموعة بيضاء وأخرى من بورتو ريكو ضد عدو مشترك، وهي نقطة تحضر بكثرة في النقاشات حول هذه المفاهيم اليوم.

ولنتوقف عند هذه النقطة قليلاً. يخبرنا التاريخ أن تشكيل التحالف لم يحدث بالسرعة التي صوّرها الفيلم. يمكننا فهم هذه النقطة وأخريات تشبهها من عدة مناظير، كصعوبة توقف الفيلم عندها، بينما يتسم طابعه الإخراجي بإيقاع أسرع وأكثر تشويقاً، أو كمحاولة لإضفاء المزيد من السحرية على قدرات هامبتون، المسيح الأسود، كمتحدثٍ وسياسي، وهو سلاحه الأقوى كما يدلنا الفيلم. 

أدائياً، يبدو أن الإشادة التي ينالها كالويا اليوم مستحقة بالكامل، إذ إن الدور كُتِب لتكون أكثر لحظاته قوةً أثناء مخاطبة الجماهير، الأمر الذي يتطلب طاقةً وبلاغةً، وهو ما ينجح كالويا بالفعل في تقديمه، من دون أن يضطر إلى حصر الشخصية بهذا البعد، وهو ما نجده في خط العلاقة مع ديبورا، وقدرته على الظهور بوجه آخر. وإن كانت بعض التساؤلات عن جوانب أخرى من حياة هامبتون وقلة حضورها في الفيلم مشروعةً، فإن كالويا ينجح في سد هذه الثغرة عبر الطريقة التي اختارها لتجسيد فريد هامبتون، والتي نعرف اليوم أن مخرج العمل، شاكا كينغ، ترك فيها للممثلين مساحةً لتصور شخصياتهم بعيداً عن الدقة التاريخية. 

ينطبق الأمر ذاته على دومينيك فيشباك، التي تجسد صراعاً إضافياً يتعلّق بموقعها كامرأة في هذا العالم. يعيدنا هذا بالضرورة إلى محاولة الفيلم عرض جانبٍ آخر من تاريخ الحزب. ففي الفيلم، ليس الفهود السود حملة سلاحٍ عنيفين، أو رمزاً "ظريفاً" للمهووسين بالجماليات القديمة، بل حركة منضبطة ذات برنامج. وفي هذا السياق، فإن مشاركة المرأة ودورها تعد نقطة شديدة الأهمية، سواء بالقواعد التي تنظم الحركة وتمنع أشكال الإساءة للمرأة، أو البرامج الصحية والتعليمية التي كانت تزيح عبئاً عنها.

عودةً إلى فيشباك، فإن الإتقان هو الصفة التي تسبغ كل المراحل التي تمر بها شخصيتها منذ بداية الفيلم وانضمامها إلى الحزب، وتحوّلها حين تصبح جزءاً فاعلاً فيه بما يتطلبه ذلك من تغيّر على الصعيد الشخصي، ودخول خط حملها بالجنين لاحقاً. ومن المؤكد أن كل من تابع الفيلم، سيتوقف طويلاً عند النهاية، حين تغتال الشرطة هامبتون بحضور ديبورا، التي ترفض عند هذه النقطة أي شكلٍ من أشكال الهزيمة، ولو كان رد الفعل. 

على الجهة الأخرى، يظهر ستانفيلد كالمتضرر الأكبر. إن مقاسمة البطولة مع شخصية جدلية، كـ ويليام أونيل، أثارت بعض ردود الفعل، كاتهام الفيلم بإظهاره كشخصية تستحق التعاطف، وهو فخ لا يقع الفيلم فيه حقيقةً، ويحاول بعد إدانته تصوّر ما الذي دفع أونيل للقيام بهذا. 

إلا أن هذه النقطة هي التي يمكن أن يُشار إلى بعض الضعف فيها. إذ نعرف بالطبع من لحظات معينة أن الدافع المادي يلعب دوراً في تحريك أونيل دائماً، وبأن "قطع الفضة الثلاثين" حاضرة في هذه القصة. نعرف، أيضاً، بالاعتماد على مقطع من المقابلة مع أونيل الحقيقي، أن ميتشل لعب دور شخصية أبوية في حياته، ومن المخيّب ألا نرى كيف توثقت هذه العلاقة بشكلٍ أفضل، الأمر الذي كان سيضيف للفيلم قيمةً كبيرة ويؤكد ما يحاول قوله عن الأساليب التي كانت الحكومة مستعدة لانتهاجها في محاولة إيقاف هامبتون. إن عدم توضيح منطق أونيل يدفع بـ ستانفيلد ذاته للاقتصار على إظهار تفاصيل بعينها، كردود الفعل اللحظية أو حالة القلق الدائمة التي يعيشها شخص متخفٍ، ما يدفع الإنسان للتساؤل عما كان بإمكان ممثلٍ كـ ستانفيلد إظهاره أيضاً.

ختاماً، لا يمكن انتظار السينما كوسيط لتلعب دور المؤرخ الفعلي، ولا يجب توقع ذلك بأي حال، وقد تنطبق هذه الملاحظة على الفيلم بمواقع عديدة. إلا أنه، في الوقت ذاته، عملٌ ينجح في نقل قصة تراجيدية بإيقاعٍ سريع وشخصيات جذابة في معظمها، وابتعاداً إلى حدٍ ما عن طرقٍ باتت شائعةً في محاولة هوليوود للعودة إلى الماضي وعرضه اليوم.

المساهمون