"ذاكرة الغد": تلاعب بالزمن والسينما

"ذاكرة الغد": تلاعب بالزمن والسينما

28 يوليو 2021
كيم كانغ ـ وو: ارتباكات التحقيق (Getty)
+ الخط -

تستند المخرجة الكورية الجنوبية يو مين سيو، في "ذاكرة الغد" (ترجمة حرفية للعنوان الأصلي، علماً أنّ هناك عنوانين إنكليزيين: Recalled أي "تمّ الاسترجاع"، وMemories Of Tomorow، أي "ذكريات الغد")، فيلمها الأحدث (2021، 99 د.)، على خاصية الأفلام التي تتلاعب بالزمن، وتعتمد عليه كمحرّك رئيسيّ للأحداث. كأنّها، عندما كتبته وأخرجته، استحضرت تجربة المخرج كريستوفر نولان، في تناوله الزمن وتفكيكه إياه بطريقة خلّاقة ومثيرة، فتحوّل إلى عازفٍ جيد على آلة البيانو، يتلاعب بالمفاتيح والنوتات، ليُخرج مقاطع ترضي ذائقة الجمهور وتشبع لذّته، خاصة في Memento (تذكار، 2000، 116 د.)، الذي كان فيه المهندس والرسام وعالم النفس، وغيرها من المدركات العلمية التي وظّفها كلّها ليصنع عمله بدقّة وعناية؛ وبدرجة أقلّ Tenet (عقيدة، 2020، 150 د.)، الذي مارس فيه أيضاً لعبته المعتادة مع الزمن.

تأثّر يو مين سيو واضح في البناء، والشكل الهندسي العام، والتقديم والتأخير، والتلاعب بعقل المُشاهد، وكسر أفق توقّعاته. في الوقت نفسه، تتلاعب بالأحداث والعقل والسلوك، المستند إلى الاضطرابات النفسية، التي تصيب الذاكرة عادة، جرّاء صدمة قوية، جسدية أو معنوية. فالشخصية الرئيسية، أس سو جين (سيو يي جي)، في سلوكها وذاكرتها المثقوبة، تشبه كثيراً شخصية لينارد شلبي (غاي بيرس)، في "تذكار". كلاهما أصيب في ذاكرته، بفعل صدمة سقوط قوية، على خلفية جريمة قتل، الأولى في حضور زوجها، والثاني بعد قتل زوجته، ما يثبت أكثر فرضية استعانة المخرجة، أو تأثّرها الواضح بهذا العمل، وهذا ليس انتقاصاً من فيلمها، أو من الاقتباس أو التأثّر، إذْ تُحسَب لها محاولتها محاكاة تجربة سينمائية مهمة، عبر قصّة مختلفة، سيّرت خيوطها في بيئة مغايرة، ومجتمع يملك مرجعيات غير تلك التي اعتمدها نولان في "تذكار".

افتُتح "ذاكرة الغد" بمقدمة سريعة، عكستها صورة مقرّبة لبقعة دم موزّعة على مساحة رمادية، كأنّها لوحة تشكيلية في طور الاكتمال. تلتها صوَر مُشوّشة ومتداخلة لمناظر وشخصيات، برسومات تخطيطية، أُضيفت لها لوحة تشكيلية لكوخ على ضفاف بحيرة، تحيط بها الجبال. بعدها، تتلاشى الصور، وتُختَم المقدمة بوجه يتألم، مع تسليط الكاميرا على عينين، تتداخل فيهما خطوط توحي بنبض القلب، المنعكس في آلات الإنعاش.

هذه المقدمة الغامضة والغاضبة طُعْمٌ أول قدّمته يو مين سيو للمُتلقي، الذي سيشعر بنوعٍ من الرهبة والإثارة والخوف من الأحداث المقبلة. بفضلها، عُرف اتجاه الفيلم ونوعيته، وشُحن بأسئلة كثيرة، ستحتم عليه إكمال ما تبقى منه. لهذا، نجحت المخرجة مبدئياً في تلوين فيلمها بآليات الدراما والإثارة والتشويق، ليس لأنّ هذه المعطيات مذكورة في البطاقة الفنية لـ"ذاكرة الغد"، بل لأنّها وضعتها في المقدّمة الكثيفة والغنية بالمعاني، والمحرّضة على فعل المُشاهدة.

لكنّ هذه الشعلة من التكثيف خبت سريعاً بمجرّد الدخول في الفيلم، إذْ بدأت الأحداث، في الثلث الأول، تسير ببطءٍ شديد، وتتجه إلى نوعٍ سينمائي يُركّز عادة على الإيقاع الهادئ، ليُحدث صدمة تَلقٍ مع تسارع وتيرة الفيلم، وتصاعد حدّته. هذا ما حدث فعلياً في الثلث الأخير، بانكشاف الأحداث، بعدما تبيّن أنّ ذاكرة أس سو جين تحتفظ بذكريات عن الماضي والحاضر، تتداخل بينها وبين الشخصيات التي صنعتها.

اشتغلت يو مين سيو كثيراً على نحت تلك الشخصيات، خاصة شقيق البطلة، الذي ادّعى بأنّه زوجها، ليحميها من جريمة كانت ستُتّهم بها. أراد أن يسافر معها إلى كندا، لتتحرّر من الأحداث الحالية، وتحقّق حلم الطفولة. لكنّها اكتشفت أنّه ليس زوجها، بعد عثورها على صُور زفاف، وعرفت من زميلتها في العمل بأنّها فنانة تشكيلية. الزوج المفترض لم يخبرها بهذا، ففقدت الثقة به، وفي الوقت نفسه فقدت ذاكرتها المولِّدة للهلوسات، مُصوّرة لها على أنّه قاتل. لهذا، بلّغت عنه مفتش الشرطة، الذي يشكّ أصلاً في الزوج المفترض.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

شكّلت صناعة شخصيات الفيلم منعرجاً حاسماً فيه، خاصة في تشابكها وتباعدها وتقاربها. عبرها، أثارت المخرجة حماسة كبيرة في المتلقي، لصعوبة توقّعه سلوكها وتصرّفاتها. في أحيانٍ كثيرة، رسمت حدثاً معيناً، لتتحايل عليه كي يذهب في اتجاه تخمين معين، وبعد لحظة، تكون النتيجة مختلفة. من هنا، يتضاعف شعور الإثارة. مقالب كثيرة منسوجة هكذا، فإذا بالجزء الثالث مُحمّل بهدايا وحلول عدّة، عكسها الكشف الحقيقي لما وقع، من دون أنْ تترك شيئاً للغموض، لأنّها صفّت تقريباً الأحداث والوقائع كلّها في النهاية، ولم تترك شيئاً مُعلّقاً. مثلاً: اكتشاف أنّ الشخص المُبلّغ عنه هو من كان يحميها فعلاً من الزوج الحقيقي، ومن وقائع عدّة؛ مسألة الهجرة إلى كندا محاولة لتحقيق حلمها بالهجرة. هناك أيضاً العودة من النهاية إلى المقدّمة: اللوحة التشكيلية، التي تُظهر الكوخ، هي في الأصل بطاقة بريدية تحتفظ بها من صغرها، بعد أن تلقّتها كهدية منه.

نسجت يو مين سيو خيوط هذه الأحداث انطلاقا من فكرة الزمن، بعد أن تعطّلت ذاكرة أس سو جين. أيّ أنّها اتّخذت منها منطلقاً أساسياً لخلق هذا القالب الفني والجمالي. ولولا الاختيار الجيد للممثلين، الذين توحّد كلّ فرد منهم بشخصيته، ما كان ليظهر الفيلم بذلك الشكل المحترم: سيو جين هائمة، تجمع شتات ذاكرتها من الموجودات، ومن المحيطين بها؛ المحقق باي (يو رام باي)، غير المبالي بالسلوك السوي، لكنّه في المقابل يتّقد ذكاءً، ويعرف كيف يربط الأحداث، ويستخرج منها الحقيقة؛ مدير الموقع (كيم كانغ وو)، الرجل الخائف من أن يصل إليه التحقيق، فيدخل السجن، لهذا كان مضطرباً ومشوّشاً؛ مديرة مدرسة الفنون (يو هي ران) تساعد البطلة على لملمة ما فاتها؛ بالإضافة إلى شخصيات أخرى في أدوارٍ ثانوية، دفعت الفيلم إلى الأمام، وقدّمت شحنة كبيرة من الإحساس، أكسب "ذاكرة الغد" مصداقية كبيرة، وأوجد جسر تواصل مع الجمهور، ليتوحّد مع القصّة، وتفاصيلها الكثيرة.

ينتصر "ذاكرة الغد" للسرد الذكي، ويتعامل مع الأحداث والوقائع من منطلق سلس، ويقدّم المعطى ويتتبعه حتى يكتمل، رغم أنّ ثلثه الأول ثقيل الخطى. لكن، مع مساره، ظهر بأن هذا ضرورة درامية، لإحداث شعور بلذة النهايات المختلفة وغير المتوقّعة. من ناحية الموضوع، ينتصر لروح التضحية، ويقدم عنها مفهوماً مغايراً، يفيد بأنْ الشخص الذي لا يُضحّي من أجل من يحب، لا معنى لحياته. لهذا، قرّر شقيق البطلة أنْ يحترق، لتشرق أخته في فضاء بلا عوائق ومشاكل.

هكذا أظهرت يو مين سيو ذكاءً في طريقة نسج الأحداث، ومنحت الجمهور جرعة كبيرة من الأحاسيس.

المساهمون