"بيننسولا" لسانغ ـ هو: غياب بَرَكة السينما

"بيننسولا" لسانغ ـ هو: غياب بَرَكة السينما

21 أكتوبر 2020
الكوري الجنوبي يون سانغ ـ هو: انعكاس المعادلات (Getty)
+ الخط -

 

باستثناء حالات معدودة، كـ"العرّاب 2" لفرنسيس فورد كوبولا (1974) و"تيرميناتور 2" لجيمس كاميرون (1991)، تقول القاعدة إنّ الأجزاء الثانية، أو تتمّات الأفلام، قليلاً ما تخرج بالإقناع الفنّي نفسه الذي أبانت عنه الأجزاء الأولى، أو بأفضل منها.

لم يخرج "بيننسولا: قطار إلى بوسان 2"، للكوري الجنوبي يون سانغ ـ هو (1978)، عن هذه القاعدة. لكنّ الوقوف عند استنتاج كهذا لا يفي الفيلم (2020) حقّه. إذْ تقتضي المقاربة النقدية السليمة التوقّف عند العمل الفني بحدّ ذاته، وعدم مقارنته من الخارج مع عمل آخر للحكم عليه بشكلٍ قطعي. بالإضافة إلى أنّ أفلاماً قليلة، كـأفلام الـ"زومبي" على الأقلّ، يمكن أن تصمد في المقارنة مع "قطار إلى بوسان" (2016)، لسانغ ـ هو نفسه، لأنّه يُعدّ تحفةً مطلقةً قلّما يجود بها الزمن السينمائي. والوقوف عند مكامن ضعف "بيننسولا"، مقارنة بنقاط قوة "قطار إلى بوسان"، يضيء حقائق كثيرة عن نوع الزومبي وصعوباته، إلى حدّ بلوغه حالة مدرسية تستحقّ التأمّل لاستخلاص استنتاجات أكثر إثارةً للاهتمام من مجرّد حكم على فيلم بشكل متسرّع، مقارنة بفيلمٍ آخر.

توطئة الفيلم توحي أنّ "بيننسولا" ينطلق من حيث انتهى "قطار إلى بوسان"، عاكساً بالتالي أطراف المعادلة من "وضعية أوّلية عادية تتطوّر، شيئاً فشيئاً، إلى وضعية مغرقة في الغرابة، بالموازاة مع تنامي الإثارة والتشويق"، إلى "وضعية غريبة منذ البدء، تفتر غرابتها مع توالي الحكي، قبل أن تتطوّر إلى ذروة درامية مصطنعة، مع تراكم أحداث لا تصبّ كلّها في اتجاه واحد".

ينطلق الحكي من شبه جزيرة كوريا (هذا مرجع العنوان)، حيث يتركّز الوباء، مع نقيب البحرية جونغ سيوك (مرفقاً بأخته وزوجها وابنها)، الذي يشقّ بسيارته الطريق العامرة بالزومبي إلى سفينة تُبحر بالناجين إلى هونغ كونغ. لكنّ اكتشاف حالات العدوى في الباخرة، الذي سيتطوّر إلى فوضى من الفرار والقتال لاستئصال الزومبي في وقت باكر من الفيلم، أضرّ كثيراً بإيقاعِ المُجمَل. قفزةٌ في الزمن تنقل الجميع إلى 4 أعوام إلى الأمام، نحو هونغ كونغ، حيث بالكاد يتمّ التعرّف على جونغ سيوك، مُغرقاً شجنه في كؤوس الخمر رفقة نسيبه، وقد نحت منه النّدمُ، وتقريعُ الضمير على فشله في إنقاذ أخته وابنها من أنياب الزومبي في السفينة، رجلاً عنيفاً وانطوائياً. يُقدَّم له عرضاً سخياً من عصابة دولية، يقضي بتكليفه - رفقة "كوموندو" غير اعتيادي، مُكوّن من أشخاص غريبي الأطوار، ومدينين للعصابة بديون ـ بمهمّة العودة إلى شبه الجزيرة الكورية، للعثور على شاحنة نقل أموال مُكدّسة بملايين الدولارات، مقابل الحصول على نصيب وافر منها يكفي لإغنائه.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

عرضٌ كهذا يقلب حياته رأساً على عقب، رغم تردّده في البداية. لكنّ قبول نسيبه بالمهمّة يدفعه إلى الموافقة عليها، سعياً إلى شيء من الوفاء لذكرى أخته، ونوعاً من تكفير عن ذنبه، انتقاماً من فكرة الزومبي، التي تسبّبت في مأساته، خصوصاً أنّه متأكّد من أنّ عودة نسيبه، الضعيف وذي النفسيّة المرتبكة، حياً من هذه المهمّة، تبدو شبه مستحيلة من دون حمايته.

يُبحر الـ"كومندو" إلى شبه الجزيرة المأهولة بالزومبي، فيتفتّق في أذهاننا عند وصوله اختلافٌ جوهري آخر بين الجزئين. فبينما دار الأوّل في فضاء القطار المغلق، مع مقاطع قصيرة في محطّات لا تفتح أفق الحكي سوى لتغلق أبوابه بشكل أحكم على الشخصيات، دار الثاني في فضاء مُغلق ـ مفتوح باستمرار، يتمثّل في فضاء شبه الجزيرة المهجور، مع ديكور ذي طابع ما بعد أبوكاليبتي مروِّع، وموفّق للغاية، قوامه مئات السيارات المغبرّة المهجورة وسط طرقات ممتدّة. لكنّ طابع تشتّت الفضاء هذا لم يخدم الفيلم، بحكم أنّ الإثارة التي تطبع نوع الزومبي مرتبطة بالفضاء المغلق، منذ "ليلة الموتى الأحياء" (1968)، باكورة جورج روميرو التي شكّلت لبنة في أساس النّوع، وأعطته في الوقت نفسه حروف نبله ومفاتيح تميّزه، وفي مقدّمتها وحدة المكان، إذْ جرت أكثر من 90 بالمئة من أحداث الفيلم وسط منزل ريفي خشبي، ضمن بضعة أمتار مربّعة.

لكنّ الأمور أعقد من أن تُصوّر بهذا الشكل، مرّة أخرى. وبما أنّ القوانين خُلقت لتُخرق، فإنّ أفلاماً أخرى من نوع الزومبي صنعت تشويقاً وإثارة من قلب فضاءات أكثر انفتاحاً من شبه جزيرة كوريا، كما في "بيننسولا"، وأبرزها رائعة "أرض الموتى" (2005)، الجزء 4 من أصل 6 أجزاء شكّلت ساغا "الزومبي" لروميرو. سانغ ـ هو حصر المواجهة بين مجموعات بشرية متفرّقة، يكاد لا يربطها أيّ رهان مصيري، ما أضفى صبغة تصنّع وسطحية على الصراع على الأموال؛ بينما خلق روميرو شبكة مصالح وارتباطات بين شخصيات ذات كثافة درامية حقيقية، ودوافع إنسانية عميقة، ما منح الصراع بينها، في ظلّ زحف جحافل الزومبي على الجميع، بُعداً وجودياً، يرهن مصير العنصر البشري "الذكي" في مواجهة عنصر الزومبي، الذي يكتشف بالكاد نزعة الإحساس بالتعاطف والرغبة في الانتقام، وفاءً لنظرة روميرو العبقرية للأشياء المتّسمة بمفهوم "اليين" و"اليانغ"، أو الشيء الذي يحمل نقيضه في قلبه.

الاستشهاد بـ"أرض الموتى" كمرجعٍ مُثيرٌ للاهتمام، لفهم سيناريو "بيننسولا" من وجهة نظر أخرى، حيث يبدو هذا الأخير كـ"ميكروكوسم" تمهيدي لنشوء المجتمع الطبقي القائم على التّفرقة العنصرية، وتسليع الحماية من الزومبي من أجل تكريس الاغتناء غير المشروع الذي يطبع "أرض الموتى". ولعلّ تنظيم الجنود لحفلات ترفيه وقمار (تحيل على مجتمعاتنا الاستعراضية بمعناها الحاضر عند بيار بورديو)، على صراع الرهائن مع الزومبي، أبرز مشترك بين الفيلمين، بالإضافة إلى أنهما يتطوّران في القسم الـ3 إلى نوع أفلام المطاردة، التي تُذكّر الـ"سينفيليين" بأجواء سلسلة "ماد ماكس" (4 أفلام أخرجها جورج ميلّر بين عامي 1979 و2015)، ومطارداتها الانتحارية بمركبات مجنونة.

 

 

هذا يُنوِّه ببراعة سانغ ـ هو في إخراج مَشاهد الحركة والصّراع بين الحشود، خصوصاً بتركيزه على تقنيات يبرع فيها، منذ "قطار إلى بوسان": المونتاج التناوبيّ بين مشهدين يعكسان احتدام القتال، قبل أن يجمع أحدهما بالآخر فجأة؛ التّقطيع الخلّاق في اللقطة، ما يدعم سلاسة الحركة واشتداد الإيقاع. لكنّ سقوطه في شيء من البكائية (باتوس) في مشاهد عدّة، بما فيها مشهد الختام الذي يجسّد ذروة الصّراع، يؤشّر على عدم تماسك سيناريو "بيننسولا" واختلالاته العديدة (سانغ ـ هو ورِيو يونغ ـ جاي)، ويوضح البُعد الكبير عن "بَرَكة" آلهة السينما، التي ميّزت كلَّ تفصيل في "قطار إلى بوسان".

المساهمون