"العالم": اشتغالٌ سينمائيّ صادقٌ عن التنمّر

"العالم": اشتغالٌ سينمائيّ صادقٌ عن التنمّر

22 سبتمبر 2021
"العالم" للورا واندل: لا فعل تنمّر بل ردود فعل عليه (الملف الصحافي)
+ الخط -

ما من طفلٍ لم يتعرّض لمُضايقات وإغِاظات وإزعاجٍ، من أخ أو صديق أو زميل، إنْ بدافع التعارف أو التقرّب أو محاولة اللعب، أو غيرها. أفعالٌ كهذه تُعدّ تنمّراً إنْ تكرّرت، أو كانت مُتعمَّدة، واستُخدِم فيها عنفٌ بدني أو لفظي.

في "العالم" ("فناء المدرسة"، وفقاً للعنوان الإنكليزي)، أول روائي طويل للبلجيكية لورا واندل، يُقدَّم التنمّر في عالم الأطفال بأسلوب جيد ومُكثّف جداً. غاية في التأثير والصدق، رغم صعوبة الموضوع المُعالَج بحساسية وذكاء، ومن دون شحن عاطفي زائد.

عادة، يُمارَس التنمّر ضد المُختلف: بشرة، عرق، دين، ثقافة، طبقة. أو أصحاب إعاقات وعاهات ومشاكل صحية عامة. كذلك المتفوّقون والموهوبون. لكنّ الأكثر عرضة له يكونون عادة من المُسالمين أو المُنطوين أو الخجولين. في "العالم"، لم تؤكّد واندل على أي من الحالات السابقة، إذْ تعمّدت ترك الأمر مفتوحاً على احتمالات عدة، وتفسيرات وتأويلات مُختلفة، ليس من بينها العرق أو الدين أو الثقافة أو الطبقة أو المشاكل الصحية.

لا يتمحور "العالم" ـ الحاصل على "جائزة الاتحاد الدولي للنقّاد" في قسم "نظرة خاصة"، في الدورة الـ 74 (6 ـ 17 يوليو/ تموز 2021) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي ـ حول صبي مُعرّض للتنمّر، بقدر ما تظهر انعكاسات وردود فعل من شقيقته الصغرى، التي يصعقها ما يحدث، وتحتار في كيفية التصرّف. في البداية تعكس نورا (مايا فانديربك، في أداء باهر)، ابنة الأعوام الـ7، صورة لمعاناة شخص يشعر أنّه يدخل حيّزاً غير آمن. رغم طمأنة والدها (كريم لكلو) بأنّها لن تكون بمفردها، نظراً إلى وجود شقيقها الأكبر آبل (غونتر ديوريه) معها. تدريجياً، تكتشف نورا المدرسة وقواعدها. تعلُّم الكتابة، ودروس السباحة، والحاجة إلى التأقلم وتكوين الصداقات. قبل ذلك كلّه، هناك فناء المدرسة. سريعاً، تشعر بالرضا عن الانتماء إلى هذا المجتمع الصغير.

مع ذلك، تُصدم عندما تكتشف أنّ شقيقها الأكبر، الذكر، في مأزق، إذْ يتعرّض للتنمّر دائماً من تلامذة أكبر حجماً وسنّاً منه. لكمات وضرب مبرح وسخرية، ووضع الرأس في المرحاض، وخنقها أحياناً بأكياس القمامة. تتغيّر نظرتها إزاء شقيقها، الذي تتعاطف معه في البداية. ثم: كيف يمكنها مساعدته؟ ماذا تفعل أو تقول؟ ولمن؟ نورا مُحاصرة بإملاءات التضامن الأخوي. بدوره، لا يريدها آبل أنْ تتدخّل أو تُخبر أحداً. يزداد قلقها لأسبابٍ ليس أقلّها أنّ الأمور تزداد سوءاً مع الوقت، وعواقب التحدّث علناً تحمل القدر الكارثي نفسه على شقيقها، الذي لا يريد حقاً أنْ تتعامل أخته مع كلّ هذا. تدريجياً، ينمو شعور بكم أنّه قاسٍ، بالنسبة إلى آبل، أنْ يرى نظرة نورا له تتغير، وأنّه لم يعد الأخ الأكبر، الصديق والمدافع والحارس.

 

 

على عكس الذكور، لا تُوجِّه الفتيات اللكمات الجسدية بل اللفظية، الأشد والأقسى قوّة. يبدأ الأمر بالتهامس على شقيق نورا، والسخرية منه. تتطوّر الأمور أكثر عندما تشير فتاة إلى أنّ والد نورا طُفيلي فاشل، يبقى في المنزل لأنْ لا وظيفة حقيقية له. هذا يدفع الطفلة إلى التفكير، فتنتابها شكوك حول مكانة والدها في العالم. لم تعد متأكدة من كيفية التواصل مع أهم ذكرين في حياتها الصغيرة. هناك شكل من أشكال النبذ والإقصاء والرفض الاجتماعي، وقبلها العقاب، عندما يتعلّق الأمر بدعوة إلى حضور حفلة عيد ميلاد، تُستبعد منها نورا لأسباب غبية، ما يؤكّد، بل يعكس، بشدّة، أنّ الأطفال يحضرون إلى المدرسة ما تعلّموه في المنزل. العكس صحيح طبعاً.

يُلقي "العالم" نظرة مُواربة على المُدرّسين، الذين تكون لديهم نوايا حسنة غالباً، لكنّهم غافلون عن كثيرٍ ممّا يجري حولهم، ومشغولون دائماً بالحفاظ على النظام، أكثر من الاهتمام الفردي بالتلاميذ. في هذا الصدد، لم تُصدر لورا واندل، كاتبة السيناريو أيضاً، حُكماً عليهم، مُظهرةً أنّ الكبار، الآباء أيضاً لا المُدرّسين فقط، يبذلون جهداً، لكنْ لا وقت لديهم أو طاقة أو أهلية. إنّهم ينتبهون أحياناً، لكنْ بعد فوات الأوان، أو ربما لا ينتبهون أبداً.

بشكلٍ ملحوظ، تفاعلت الكاميرا المتحرّكة بنشاطٍ مع الطفلين. رصدت تصرّفاتهما وردود أفعالهما وعالمهما العاطفي والنفسي عن كثب، عبر لقطات مُصمَّمة بدقّة وعناية فائقتين. لكنْ، أحياناً، نُزعت العفوية والتلقائية عن بعض الكادرات. على امتداد الفيلم، تعمّدت واندل ألا تُظهر البالغين كثيراً، وبدلاً من ذلك، تلتصق بوجه نورا الصغير دائماً، في لقطات طويلة تكاد لا تنقطع، مُستبعدة الخلفية أو عمق المجال من الكادر، بحيث لا تُسمع إلا الأصوات والحوارات، فاصلةً نورا عن محيطها. هذا مثلٌ بارعٌ على استخدام وتوظيف المساحة والشخصيات خارج الكاميرا، إذ بالكاد يظهر أي شيء آخر باستثناء وجه نورا. كلّ هذا يحدث في المدرسة، فمنذ اللقطة الأولى وحتى النهاية، يبقى الجميع داخل جدران المدرسة الأربعة.

فناء المدرسة أول مكان ـ عالم لتواصل الأطفال عملياً، واستكشافهم المحيط الخارجي للأسرة والأقارب. يُشكّل نواة الاحتكاك الاجتماعي، والاعتماد على النفس بمعزل عن الأسرة، أو عن أي توجيهات. في هذا النموذج المُصغّر للعالم الخارجي، يتأكّد أنّ الاندماج أول ما يحتاج إليه الأطفال، والتوق الحار إلى القبول والاعتراف من الأقران. وإلا، فالبديل عادة يكون تهميشاً أو نبذاً أو تنمّراً أو عنفاً. وتلك كلّها ضغوط نفسية واجتماعية، لا تقلّ عن تلك التي يواجهها الكبار.

تؤكّد الدراسات أنّ أغلب المتنمّرين كانوا عرضة للتنمّر سابقاً. هذا يحدث بالضبط مع آبل، الذي ينضمّ في النهاية إلى المتنمّرين، خوفاً أو اتقاءً من تنمّرهم وأذيتهم، أو لإسقاط ما لحق به على الغير، أو ليكون محبوباً ومقبولا لدى أقرانه، أو لطبيعة جديدة طرأت على شخصيته، أكسبته سلوكاً عدوانياً تنمّرياً. من هنا، يصبح العنف أو تبنّيه، من دون دراية أو وعي، الحلّ الأمثل كي لا يكون المرء هدفاً للعنف في العالم المُفترس لفناء المدرسة. فالمدرسة يُمكن أن تكون فعلياً مكاناً للعنف والإرهاب، في سنّ باكرة للغاية. ينسحب الأمر أيضاً على فناء العالم الأكبر الذي نعيش فيه.

المساهمون