موزة على الجدار: أن تُشيّد صنماً وتأكله

موزة على الجدار: أن تُشيّد صنماً وتأكله

14 ديسمبر 2019
تُراهن "الموزة" على شجاعة المُشاهد (Getty)
+ الخط -
لا نعرف كم هي كمية المقالات والكتب والحكايات الكافية لكي تتغير نظرة الأفراد إلى الفن المعاصر، وقيمته النقديّة التي تُسائل الفن نفسه وجمالياته، والسوق الذي تتحرك ضمنه الأعمال الفنيّة. هذا السوق محكوم بالإعلانات والصحافيين وشهرة الفنان وأموال أصحاب الصالات، الذين يستفيدون من "الضجة" التي تثيرها بعض الأعمال لبيع أعمال أخرى. آخر هذه "الصيحات" التي ضج بها العالم هي الموزة الملصقة على الجدار، للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، التي التهمها فنان الأداء ديفيد داتونا بعدما بيعت قبلها عدة نسخ.

هذه الموزة التي ليست العمل الأول من نوعه في رهانها على "السخف"، ونفيها للمهارة وأسلوب صناعة العمل الفنّي، وهذا ما تفترضه هي نفسها، لا كمكانس جيف كونز التي يحيطها الفنان نفسه بهالة من النوستالجيا. الموزة، وقبلها علبة براز بيرو مانزني، وقبلها معرض إيف كلاين الخالي من الأعمال، وقبل كل هذا مبولة مارسيل دوشامب، ليست إلا تعليقات وانتقادات للفن نفسه، يقول الفنان عبرها، ببساطة، أنا كفنان مختلف عنكم، أستطيع أن أفعل ما أشاء، وقد أقرر أن أتوجه بالعداء للمؤسسة الفنيّة، التي لم تعد ضابطاً فقط للذوق الفنيّ أو متحكماً به، بل أيضاً للسوق والإعلانات وغسيل الأموال والتهرب من الضرائب. الموزة أو علبة البراز، والمبولة الذهبيّة، ليست إلا علامات على قطاع فاسد ومتلاعب يسمى سوق الفنّ، سمح لهذه الأعمال بالظهور وكسب النقود منها.

ليست الموزة هي "المعيبة" و"المبتذلة"، بل أولئك الذين اشتروها، والمعرض الذي كلف آلاف الدولارات وقام بوضعها أمام الناس، ومن دفعوا النقود ليدخلوا ويشاهدوها. هذه الموزة هي إشارة واضحة للعطب الذي يحكم سوق الفن، وتحويله "أي شيء" إلى سلعة. الصورة المتخيلة عن الفن بوصفه يحمل خلاص العالم، أو خلاص الفنان، تلاشت، بل أصبحت مبتذلة، كون العمل الفني ينتهي في سوق الفن؛ أي أن أغلب الأعمال تنتهي في الصالات والمتاحف، التي تجمع وتقتني، تبيع وتشتري، ولا تفتح أبوابها للجميع، أي أن ملكيتها وكل حكاية الفنان معها ليست إلا كتالوغاً مشابهاً للذي نحصل عليه حين نشتري فرناً جديداً، الهدف منه هو إغواء المشتري وشرح العمل له.




الهدف من الموزة هو أن يأكلها أي شخص. هي تراهن على شجاعة المشاهد، لا أن ننتظر فنان أداء ليقوم بذلك، خصوصاً أن ما ينتج عن التهامها من محاكمات قضائية وتهم بالتخريب لن يكشف إلا سذاجة مفاهيم سوق الفن، والأعمال الفنيّة التي يدافع عنها، فالموزة وما يشبهها من أعمال أشبه بفايروس يعري المؤسسات والقوى التي جعلت الموزة التي ثمنها أقل من دولار، سبباً لدفع الآلاف (وربّما الملايين) في سبيل الحافظ عليها وبيعها وشرائها.
ما يجب أخذه الاعتبار أن العمل الفني لا ينفصل عن الشروط التاريخيّة والقوى التي تجعله "يظهر" بالشكل الذي هو عليه، الجمال مهما كان منحطاً أو سامياً هو وليد شرط سياسي وثقافيّ؛ أي أن تاريخ الفن ليس إلا تاريخاً سياسياً للقوى المهيمنة. بالتالي، أي عمل فني، وما إن "يظهر"، حتى يصبح جزءاً من هذا التاريخ الجماليّ، الذي تأتي الموزة ضمنه كأثر لفضح علاقات القوى هذه، كونها ترفض "الجماليات" القائمة، وتواجه الفن نفسه.
مفاهيم استقلال العمل الفنيّ عن التاريخ ودوره في توليد الحس الجمالي السامي، ليست إلا مفاهيم دينيّة، تعيق عملية النقد الفني، وتنتمي إلى زمن وشرط ثقافي وتقني مختلف كلياً عما شهده القرن العشرين من تغيرات. الأهم، أن عدم التهام الموزة هو سخرية من الجمهور نفسه الذي يرى في الفن "مقدساً" لا يجب المساس به، وهذا أيضاً نوع من الوهم الدينيّ الذي يحيط العمل الفني بهالة ما مصدرها الجمهور والمؤسسة لا العمل نفسه. هذه الهالة ترتبط بالأسلوب الجدي الذي يقدم فيه العمل الفنيّ ضمن صالة نظيفة بيضاء، يمنع لمسه أو الاقتراب منه.

بصورة أوضح، لمَ يحق لنا أثناء مباراة كرة القدم أن نشتم اللاعبين، بل ونرمي عليهم قشر الموز، ونوقف اللعب أحياناً -أي "نخرب" اللعبة - ولا يحق لنا على الأقل أن نأكل الموزة أو ننزعها من على الجدار. العمل الفني لا يختلف عن لعبة كرة القدم من حيث أن كليهما خاضعان للمتفرجين، لكن سوق الفن وتاريخه خلق قدسية ما حول العمل الفني تمنعنا من تخريبهما، والأهم أن "وفرة" الأعمال الفنيّة، التي بدأت مع البوب آرت، حولت سوق الفن إلى مساحة للاستثمار والمضاربة، لا تهم فيها الصنعة أو المهارة، بل اسم الفنان وشهرته.
هذا ما يدركه كل من يسخر من هذا الشكل لتداول الفن، لكن فساد المؤسسة الفنيّة وقدرتها المائعة على احتواء كل ما يدعي أنه فني، حوَّل اللوحة الممزقة لـ بانكسي إلى سلعة، والموزة إلى سلعة بيعت منها عدة نسخ، أي أن هناك دوماً مشترٍ يرى القيمة في أي شيء اسمه "فنّي" حتى لو نفى صاحبه هذه الصفة.
كل ما سبق يترك الخيار في يد المشاهد، هل يأكل الموزة، أم يدفع بسذاجة ثمنها آلاف الدولارات؟

المساهمون