مديح الأصفر الباريسي... حق اللوحة في تقرير المصير

مديح الأصفر الباريسي... حق اللوحة في تقرير المصير

09 ديسمبر 2018
إحدى صفحات التاريخ لا تقرأ إلا بالأصفر الفسفوري (Getty)
+ الخط -
إحدى صفحات التاريخ لا تقرأ من الآن إلا بالأصفر الفسفوري، الذي رسم به الفرنسيون في 2018 باريس، شارعاً شارعاً في احتجاجات خيضت لإسقاط "إصلاحات الحكومة الضريبية".

وبعد انضمام هذا اللون إلى باقة الألوان الثورية، أو الاحتجاجية المطلبية في العالم، كيف يمكن تصنيفه في سجل التاريخ وألوانه؟

قبل 32 عاماً من "ثورة" السترات الصفراء في فرنسا، هناك أصفر مختلف، أصفر ليموني رسم ذاته في جنوب شرق آسيا، في أرخبيل الفيليبين الذي حكمه الدكتاتور فرديناند ماركوس بالنار والحديد. الثورة الصفراء أسقطته عام 1986، ودفنته بعيداً عن طيفها، قبل أن يعيد الرئيس الحالي رفاته إلى "مقبرة الأبطال".

هنا لونان أصفران تفصل بينهما بحار ومحيطات. ويدرك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن لا أصفر يشبه أصفر، لكنه في عام 2014 عبّر عن كراهيته الألوان جملة وتفصيلاً.

لا توجد ثورات ملوّنة، إنما يقول الرجل "ما يسمّى الثورات الملونة" التي أدت إلى "نتائج كارثية"، وعلى أي درجة لونية منها ألا تلامس بلاده، حتى لو كانت احتجاجات بيضاء على ارتفاع سعر الفودكا. حتى لو اقترح المحتجون تسميتها "ثورة بياض الثلج".

الغرب بدوره -وجوهرته الأميركية- معجب بالثورات الملوّنة، وإعلاميوه هم من صاغوا المصطلح، للإشارة إلى حركات شعبية ضد السلطات التي لا يعجبه سلوكها.

هناك دائماً ألوان حلوة، وألوان بشعة، بحسب موقفك السياسي. الخاكي لون بدلة لجزء من الفدائيين وهم ينخرطون في حركات التحرر ضد الاستعمار، والخاكي لون الجيش الذي يقتحم جامعة ويفتك بطلاب عزّل، وهو في أكبر الفضائح الأميركية، لون الجيش الإندونيسي وهو يقتل مئات الآلاف من الشيوعيين في منتصف الستينيات، الذين سلم "سي آي إيه" قوائم بأسمائهم.

"الثورات الناعمة" و"الثورات المخملية" و"الثورات السلمية" مصطلح جديد ترافق مع انهيار الاتحاد السوفييتي.

منذ ثلاثين عاماً بدأنا نتعرف إلى ألوان ترمز لثورات شعبية، وسرعان ما ينتشر طيف اللون إلى أن تنتهي الثورة- الحراك بالنجاح أو الخيبة.

لكن من فكّر بلون "القوة الناعمة"، ذلك المصطلح الذي صاغه الأكاديمي الأميركي جوزيف ناي في بداية تسعينيات القرن الماضي؟

كي تزيد السيطرة الأميركية إحكامها، يمكن توفير طائرات الاستطلاع والقصف في مرابضها وإراحة المارينز، وفسح المجال للون شبحي ناعم، درجة من مئات الدرجات البيضاء في صحراء الأسكيمو الجليدية يتسلل لعبادة النموذج الأميركي بالحسنى. يمكن ترويج هذا النمط أوسع من ذي قبل بزيادة صلصة الخردل الصفراء إلى البرغر. ها هو أصفر مختلف سيقترح للعالم أن يكون أكثر بدانة وأمركة.

وكما أن لا أحد يحسم متى "يحتل" الناس الشوارع والساحات، أو يقتحمون بأجسادهم البرلمانات، فإن اللون الذي يرتفع بين الأيدي أعلاماً ولافتات وباقات زهر، أو يرتدى شالات وقبعات، لون ميداني يشبه القصيدة التحريضية المباشرة.

"ثورة القرنفل" الشعبية في البرتغال حملت ألوان القرنفل، أو حشت بها البنادق أو زينت بها قمصان الجنود الذين أنهوا الحكم الدكتاتوري في 25 إبريل/ نيسان 1974.

الثورة البرتقالية في أوكرانيا اقترضت لون مرشح المعارضة يوشينكو، وارتدى مئات الآلاف أوشحة برتقالية منذ أواخر 2004 حتى بداية 2005.

الثورة الوردية في جورجيا عام 2003 اقتحمت البرلمان بالورود الحمراء لإسقاط الرئيس إدوارد شيفرنادزه.

"ثورة الزعفران" التي أطلقت على احتجاجات المعارضة في ميانمار (بورما) عام 2007، نسبة إلى لون أردية الرهبان البوذيين الذين كانوا في طليعة المحتجين.

"ثورة التوليب" في قيرغيزيا 2005 للإطاحة بالرئيس عسكر أكاييف. وإلى التبت عام 2008 سنكون مع احتجاجات الإقليم ذي الحكم الذاتي في الصين، احتجاجات حملت اللون القرمزي.

"ثورة الياسمين" في تونس التي اندلعت في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010 وأنهت حكم زين العابدين بن علي.

وغير ذلك مما يصعب حصره في لوحة الحراكات الشعبية وثوراتها.

أما "الربيع" فرغم أنه عربي، إلا أن الإعلام لم يحسم لوناً واحداً له، لأن حريق البوعزيزي وإن اشتعل بلغة عربية إلا أن الإعلامي يفضل وضع كل حريق في مكانه. ولصعوبة ملاحقة 22 حريقاً، جرى التواضع على تسميته بالربيع العربي.

جمعت الشعوب العربية المنتفضة ذات اللغة الواحدة بالأغلبية، على أن يكون الربيع ملوناً، وجرى منح تونس لقب الياسمين الأبيض، بوصفها فاتحة الربيع.

هذه الباقة الربيعية، هوجمت قبل أن يحتفل العرب بذكراها السنوية الأولى بوصفها "ثورات ملوّنة". ووصفها بالتلوّن ليس مدحاً لجمال اللوحة، وإنما هجاء يسقط التلوّن غير المبدئي الحربائي على ثورات، لها مئة سبب وسبب كي تندلع.

ولرفع الشبهة، قررت الثورات المضادة حسم الاسم، والتخلص من أي شيء يشير إلى الثورات والربيع، فقالت قولاً واحداً، إنه "خريف عربي".

الخطاب السياسي الذي روّج للخريف، افترض أنه عار من الأوراق ومن الألوان، وبالتالي من المشروعية الأخلاقية، بل والجمالية.

غير أن الربيع لا يهاجم بالخريف، إلا في مخيال فقير، فلا الربيع خريف، ولا الخريف إلا بعض موسيقى "الفصول الأربعة" لفيفالدي لو أنهم يسمعون. ثم إن السيدة فيروز زرعت الطرقات العربية ورقاً أصفر لأيلول الخريف، فزادته جمالاً، ورحّب الفلاح السوداني بذلك رغم أن ما نسميه ربيعاً هو بالضبط خريف السودان الذي تندلع فيه الألوان. لكن الفلاح البسيط يفهم ويرى الألوان بقلبه، وهو ليس عاطلاً عن العمل حتى يعمل بوظيفة دكتاتور.

العالم ملوّن. ولد العباد لكي يرسموا فضاءه وحجارته أو لا يرسموا. إنهم يمارسون حريتهم بأيديهم، أو ينادون بها علانية أو في قلوبهم وذاك أضعف الإيمان.

المساهمون

The website encountered an unexpected error. Please try again later.