"دراويش" الليرة التركية

"دراويش" الليرة التركية

22 نوفمبر 2017
الليرة قادرة على الصمود رغم المخاطر السياسية (فرانس برس)
+ الخط -
يتحدد موقفك ووجهة نظرك وحكمك على حال العملة التركية حسب هواك الشخصي نحو تركيا والسلطة الحاكمة بها؛ فإذا كنت محباً لتركيا وشعبها وعاشقا لتجربة أردوغان في الحكم، فإنك ترى أن الليرة قوية وبخير وتتعافى مقابل الدولار ولا يوجد على الإطلاق ما يهددها، بل وتتطوع أحياناً لتتبنى نظرية المؤامرة التي تقول إن هناك عملية استهداف مستمرة للاقتصاد التركي وفي القلب منه عملته الوطنية، وهناك مؤامرة لتركيع الليرة أمام العملة الأميركية لصالح قوى غربية وإمبريالية ورأسمالية تستهدف الإسلام السياسي.

وإذا كنت ممن يكرهون تركيا ولا يكنون مشاعر طيبة لأهلها ويريدون إبادة أردوغان من على وجه الأرض، فإنك ترى أن الليرة التركية تتهاوى وتنهار بسرعة أمام الدولار، وأنها لن تصمد كثيراً أمام المضاربات المحمومة، وفي وجه تحول المدخرين الأتراك نحو حيازة العملات الأجنبية الأخرى، أي الدولرة، وأن احتياطي تركيا من النقد الأجنبي الذي يتجاوز المائة مليار دولار سيتبخر مع استمرار الضغوط على الليرة خاصة مع هروب الاستثمارات الخارجية والسياح الأجانب وإغلاق الأسواق أمام المنتجات التركية وزيادة أسعار النفط.

وكلا الحكمين على الليرة التركية ومدى استقرارها أو تذبذبها خاطئان، ولن نصل من خلالهما لنتيجة منطقية لأنهما يتعاملان مع قضية حساسة هي العملة، بمنطق الهوى والأمنيات والأيديولوجيات السياسية، لا بالمنطق الاقتصادي والمالي ومعهما المنطق السياسي، ولذا تخرج النتائج غير منطقية والتحليلات مزيفة ومغلوطة، والنتيجة إثارة "دراويش الليرة" البلبلة بين المهتمين بالعملة التركية خاصة العرب المتعاملين بها، أو بين هؤلاء الذين يمتلكون أصولا واستثمارات وعقارات في تركيا.

نعم، عملة تركيا تواجه مصاعب في الوقت الحالي، وهذه المصاعب دفعت بها للتراجع إلى مستوى قياسي لتقترب من حاجز 4 ليرات للدولار الواحد، وإذا أردنا أن نحلل التراجع علمياً فإن السؤال الذي يتبادر للذهن هو: هل هناك أسباب اقتصادية وراء تراجع العملة التركية؟

ومن هذا السؤال تتفرع أسئلة فرعية منها مثلاً:


1-هل تراجع احتياطي تركيا من النقد الأجنبي، وبالتالي أثر ذلك على قدرة البلاد على سداد ديونها الخارجية وتوفير العملة الصعبة لتمويل الواردات؟

2- هل تشهد البلاد تراجعا في إيرادات النقد الأجنبي من الأنشطة الاقتصادية، وبالتالي لم تعد البنوك والصرافات تلبي احتياجات عملائها، وعلى أثر ذلك ظهرت السوق السوداء للعملة؟

3-هل تراجعت إيرادات الصادرات الخارجية، أكبر مصدر للنقد الأجنبي للبلاد؟

4-هل أصاب الكساد قطاع السياحة مثلا، وبالتالي أثر على تدفق النقد الأجنبي للبلاد؟

5-هل سحب الأجانب استثماراتهم من السوق التركية خاصة الأموال الساخنة المستثمرة في أذون الخزانة والسندات والبورصة، وبالتالي سحبوا معهم مليارات الدولارات كما حدث عقب الانقلاب الفاشل؟

6-هل هناك عمليات نزوح للأموال نحو الخارج بسبب حدوث قلاقل سياسية داخلية تشبه ما حدث في صيف 2016 حيث وقع الانقلاب العسكري الفاشل؟

الإجابة عن كل تلك الأسئلة بالنفي، فالاحتياطي لدى البنك المركزي التركي ارتفع إلى 120 مليار دولار، والحكومة تسعى لزيادته إلى أكثر من 150 مليار دولار كما أعلن أردوغان قبل أيام، وهناك تحسن ملحوظ في الصادرات حيث تقدر قيمتها بنحو 157 مليار دولار بنهاية العام الجاري، وهو مبلغ كاف للدفاع عن العملة المحلية وسداد الديون الخارجية وكلفة فاتورة الواردات، خاصة من المشتقات النفطية، وهناك انتعاش في قطاع السياحة بما فيها السياحة الروسية والخليجية والإيرانية، والاستثمارات العربية والأجنبية تتدفق على كل القطاعات الاقتصادية خاصة العقارات والصناعة والخدمات والزراعة والطاقة.


أضف إلى ذلك معايير أخرى منها التحسن في المؤشرات الاقتصادية، وقدرة تركيا على سداد ديونها الخارجية بلا تأخر، وزيادة معدل النمو الاقتصادي، وتراجع معدل التضخم، وارتفاع الدخل القومي للفرد من 3500 دولار إلى 11 ألف دولار تقريبًا، وزيادة السيولة لدى القطاع المصرفي، وتدفق الأستثمارات الأجنبية على أدوات الدين الحكومية.

الخلاصة أنه لا توجد أسباب اقتصادية ومالية تبرر هذا التراجع الملحوظ في قيمة الليرة التركية أمام الدولار، ولا توجد أسباب تدعم توقعات استمرار تراجع الليرة.

إذاً ما هي أسباب تراجع العملة التركية؟

الأسباب هنا سياسية بالدرجة الأولى، فهناك تصاعد لحدة القلق بين أنقرة وواشنطن بدأت عقب أزمة التأشيرات وزادت عقب البدء في محاكمة رجل أعمال ومصرفي تركيين في نيويورك، وهناك تنامٍ لحالة القلق في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، والذي يمكن أن يؤثر سلبا على تركيا من ناحية صادراتها الخارجية واستثماراتها ومشاريعها في المنطقة خاصة الخليج، أضف لذلك تصاعد حدة القلق بين السعودية وإيران على خلفية أزمات اليمن ولبنان وحزب الله وغيرها.

وفي حال التعامل مع هذه الأزمات السياسية، فإن التحسن سيعود للعملة التركية، فالليرة التي صمدت عقب انقلاب يوليو 2016 الفاشل، قادرة على الصمود رغم المخاطر السياسية المحيطة بالبلاد وشن أنقرة حروبا مزدوجة على الكيانات الإرهابية في سورية وشرق تركيا، كما صمدت رغم الخلافات العميقة بين تركيا وجيرانها خاصة الروس.

الليرة قادرة على الصمود لأن اقتصادا قويا قادرا على جذب الاستثمارات الخارجية، يدعمها، وسيزيد الصمود مع تحول تركيا لأن تكون جسرا عالميا لمرور الطاقة، وإنجاز مشروع نقل الغاز الروسي لأوروبا عبر أراضيها، واكتشاف أنقرة حقول غاز ونفط في مياهها الإقليمية في البحر المتوسط، لأن كل هذه الخطوات ستقلل تكلفة استيراد الوقود والذي تعد تركيا واحدة من أكبر مستورديه في العالم، وبالتالي يخف الضغط على طلب الدولار.