كيف نستعيد ثقة أصحاب المدخرات الدولارية في مصر؟

كيف نستعيد ثقة أصحاب المدخرات الدولارية في مصر؟

10 مارس 2023
مطلوب طمأنة المودعين من البنك المركزي المصري (العربي الجديد)
+ الخط -

ضع ما يحدث في لبنان من وضع البنوك يدها على أموال المودعين الدولارية وإفلاس الدولة ومعها القطاع المصرفي، إلى جانب توقعات بحدوث خفض جديد في قيمة الجنيه المصري وتعويم رابع للعملة خلال فترة زمنية لا تتجاوز العام، وانتشار شائعات ومزاعم من وقت إلى آخر عن إفلاس مصر، ستخلص لنتيجة واحدة وهي أن المدخرين المصريين باتوا يتعرضون لضغوط شديدة، وأن ثقة بعض المدخرين قد اهتزت في عملة بلادهم، لا أقول الكل بل البعض، وأنّ آلاف المصريين أقبلوا على "دولرة" أموالهم خلال الشهور الماضية سواء في شكل حيازة دولار ويورو وغيرهما من العملات الرئيسية، أو حيازة ذهب ومعادن وعملات رقمية، وفي حال لم ينجح المدخر في اللحاق بسباق الدولرة العنيف فقد أكتفى بالحل السهل وهو وضع أمواله تحت البلاطة وداخل البيوت رغم مخاطر ذلك.

تغذي تلك الحالة، ولا أقول الظاهرة، الأرقام الأخيرة الصادرة عن البنك المركزي والتي تكشف عن حدوث عجز قياسي في الأصول الأجنبية لدى القطاع المصرفي، وأن العجز اتسع بنحو 1.7 مليار دولار في نهاية شهر يناير الماضي، ليسجل 21.68 مليار دولار مقابل نحو 20 مليار دولار، مدفوعًا بارتفاع العجز لدى البنوك التجارية، وأن صافي تلك الأصول الأجنبية انخفض بما قيمته 160.2 مليار جنيه في يناير/ كانون الثاني، وبما يعادل 5.3 مليارات دولار، وأنه وفق بيانات البنك المركزي فإن هذا الصافي بلغ سالب 654.43 مليار جنيه، من سالب 494.3 ملياراً في نهاية ديسمبر/ كانون الأول، وفقاً لما نقلته وكالة رويترز قبل أيام.

هناك عامل يجب النظر إليه والتعامل معه بجدية وليس بنكران أو تجاهل وهو أن عددا من أصحاب المدخرات الدولارية سحبوا أموالهم من البنوك ووضعوها في البيوت

هناك أيضاً عامل يجب النظر إليه والتعامل معه بجدية وليس بنكران أو تجاهل وهو أن عددا من أصحاب المدخرات الدولارية سحبوا أموالهم من البنوك ووضعوها داخل خزن حديدية في البيوت وتحت البلاطة لأسباب منها مثلاً حالة الذعر والقلق التي تصيب هؤلاء عقب انتشار مزاعم يطلقها البعض من وقت إلى آخر حول إمكانية وضع الحكومة يدها على الودائع الدولارية ومصادرتها كما حدث في البنوك اللبنانية منذ خريف 2019، كما أن المزاعم التي يتم إطلاقها من وقت إلى آخر حول قرب إفلاس مصر تثير مخاوف أصحاب المدخرات والمعاشات.

في ظلّ هذا المشهد المعقد لا يستطع أحد تجاهل تبعات قرار شركة موديز العالمية خفض التصنيف الائتماني لأكبر البنوك المصرية وفي مقدمتها البنوك العامة، وذلك على خلفية خفض تصنيف مصر الائتماني للمرة الأولى منذ عام 2013.

كما لا يستطيع أحد تجاهل تعرض البنوك لضغوط شديدة من قيادات سابقة لدى البنك المركزي أرغمتها على تغطية اكتتابات أذون أو سندات الخزانة الدولارية تم طرحها في السوق المحلية، أو أجبرتها على التعامل بسعر للدولار يقل عن قيمته الحقيقة، بل وتوحيد أسعار الصرف كما كان يحدث قبل أكثر من 30 سنة.

بالطبع، لا يمتلك أحد أو حتى مؤسسة مالية ومركز بحوث أرقاما دقيقة حول حجم المدخرات الدولارية التي يكنزها المصريون في البيوت وتحت البلاطة سواء لدى المقيمين في الداخل، أو المغتربين والذين يتجاوز عددهم 12 مليون مواطن يتركز معظمهم في دول الخليج الثرية ويحولون إلى بلدهم ما يزيد عن 30 مليار دولار في السنة.

ولا يمتلك هؤلاء جميعاً إحصاء، وإن تقريبيا، بعدد أطنان الذهب والفضة والمعدن النفيسة التي يحوزها المصريون سواء في شكل سبائك ذهبية أو في صورة مشغولات تتحلى بها السيدات، أو حجم ما أضافه المصريون لحيازتهم من الذهب منذ التعويم الأول في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، أو منذ اندلاع حرب أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، وما أعقبه من فقدان الجنيه نصف قيمته في أقل من 10 شهور.

المؤشرات الظاهرة لأيّ محلل تقول إنّ قطاعاً من المصريين تدافع نحو شراء الدولار وغيره من العملات الرئيسية مثل اليورو في الفترة الماضية

لكنّ المؤشرات الظاهرة لأيّ محلل اقتصادي ومتابع تقول إنّ قطاعاً من المصريين تدافع نحو شراء الدولار وغيره من العملات الرئيسية مثل اليورو في الفترة الماضية بخاصة بعد أن أيقن هؤلاء أنّ الجنيه في سبيله إلى التراجع الحاد، وأنّ تعويماً واحداً غير كافٍ لإعادة الاستقرار إلى سوق الصرف المضطرب ووضع نهاية لأزمة العملة، وأن عملية شراء الدولار زادت حدتها منذ حرب أوكرانيا التي اندلعت في شهر فبراير 2022 عقب انسحاب ما يقرب من 22 مليار دولار من الأموال الساخنة وتراجع الإيرادات الدولارية بخاصة من أنشطة حيوية مثل السياحة وزيادة كلفة الواردات الخارجية سواء من القمح والحبوب أو المشتقات البترولية من بنزين وسولار وغيره. كما أن زيادات أسعار الفائدة على الدولار عدة مرات وصعودها بمعدلات قياسية زادت جاذبيته لدى أصحاب المدخرات.

أما عن الذهب فقد تدافع قطاع كبير من المصريين نحو شراء المعدن النفيس في محاولة للحفاظ على ما تبقى من مدخراتهم التي تتآكل يوما بعد يوم بفعل التضخم والتعويم وضعف الفرص الاستثمارية المتاحة أمام أصحاب المدخرات. زاد من الموجة توقعات بحدوث قفزات في سعر الذهب مع قفزة الدولار وارتفاع سعر المعدن النفيس في الأسواق الدولية.

وبغض النظر عن حقيقة الرقم المتعلق بحجم الأموال المكتنزة في بيوت المصريين سواء في شكل سيولة دولارية أو في شكل ذهب ومعادن نفيسة فإننا أمام حقيقة هي أن تلك الأموال مودعة في البيوت وتحت البلاطة، وبالتالي فإن القطاع المصرفي والاقتصاد لا يستفيدان منها، ولا يتم ضخها في شرايين الاقتصاد، ولا تتم الاستفادة منها في تمويل أنشطة اقتصادية مهمة في مقدمتها الزراعة والصناعة والإنتاج والسياحة وزيادة الصادرات والحد من الواردات، وبالتالي فإن الدولة واقتصادها وقطاعها المالي لا يستفيد من تلك السيولة الضخمة التي تزيد قيمتها عن مئات الملايين من الدولارات.

كما أن أصحاب المدخرات أنفسهم لا يستفيدون الكثير من هذه الأموال سوى التخزين وانتظار زيادة أسعارها وقيمتها عند المضاربة عليها مستقبلاً وتسييلها إلى جنيه مصري.

من الأفضل للدولة والاقتصاد إعادة السيولة الدولارية للقطاع المصرفي حيث مكانها الطبيعي، وهذا الأمر يتطلب جهداً كبيراً لتعميق عنصر الثقة لدى أصحاب المدخرات

في كلّ الأحوال، فإنّ من الأفضل للدولة والاقتصاد إعادة هذه الأموال والسيولة الدولارية للقطاع المصرفي حيث مكانها الطبيعي، وهذا الأمر يتطلب جهداً كبيراً من قبل السلطات المسؤولة، والتأكيد عملياً على تعميق عنصر الثقة لدى أصحاب المدخرات الدولارية.

وهذا يتطلب عدة أمور من أبرزها التأكيد على ضمانة البنك المركزي لأموال المودعين كافة سواء كانت تلك الودائع مودعة لدى بنوك حكومية أو خاصة أو حتى بنوك عربية وأجنبية، وقيام البنوك بتلبية احتياجات المودعين من السيولة الدولارية على الفور، وعدم التلكؤ في صرف أي حوالة دولارية قادمة من الخارج، لأنّ هذا يعيد ثقة قطاع كبير من أصحاب المدخرات بخاصة هؤلاء الذين تأثروا سلباً بما تردد عن تأخر بعض البنوك في صرف تلك المستحقات.

كما أنّ الأمر يتطلب تقديم إغراءات لأصحاب المدخرات الدولارية سواء في الداخل أو الخارج عن طريق منح سعر فائدة جذاب على الودائع الدولارية، سعر يزيد عن الأسعار المتداولة في الأسواق الدولية ويقترب من الأسعار التي تقترض بها الحكومة من الخارج سواء عبر الصكوك أو السندات، والأهم من ذلك العمل سريعاً على سدّ فجوة الأصول الأجنبية لدى القطاع المصرفي.

المساهمون