البنك المركزي في الدولة الحديثة

البنك المركزي في الدولة الحديثة

24 اغسطس 2022
محافظ البنك المركزي الذي استقال من منصبه طارق عامر (getty)
+ الخط -

هل كانت المشكلة المالية في مصر كلها بسبب هذا الظرف "الطارئ"، ولولاه لكان البنك المركزي "عامراً" بالدولارات حالياً؟ وهل يكفي لإصلاح المشكلة أن نأتي بمن هو فكره "حسن"، على أن يكون "عبداً لله" مخلصاً، فيتمكن من القضاء على كلّ أزماتنا؟ 

شاهدت صور اللحظات الأولى التي أظهرت دعم مسؤول "محمود" في مؤسسة مالية دولية بارزة للتغيير الذي حدث في قيادة البنك المركزي المصري (استقالة طارق عامر)، واستبشرت كما استبشر غيري بها وبكفاءة المسؤول المكلف (حسن عبدالله) وإمكاناته الفنية المعروفة لأغلب من عملوا في القطاع المصرفي المصري، رغم علمي بشخصيات أخرى، "محمودة" وغير محمودة، لم تسعد بترشيحه للمنصب. 

فقد علمتنا الحياة السياسية في أميركا، مع الرئيسين الحالي جو بايدن والسابق دونالد ترامب، ورئيس البنك الفيدرالي الحالي جيروم باول، أنّ الخلافات الشخصية أمر طبيعي، حتى على هذه المستويات، وأن تأثيرها في نجاح أو فشل البنك في تحقيق أهدافه في الدولة الحديثة يكاد يكون معدوماً. 

فمع الخلاف الحاد والمعلن بين ترامب وباول، واصل الاقتصاد الأميركي الاستمتاع بأطول فترة انتعاش في تاريخه، قبل أن يأتي بايدن وتفشل علاقته الطيبة برئيس البنك في حل معضلتي التضخم والركود حتى الآن. 

لا أحمل الرجل الذي ترك منصب البنك المركزي المصري كل المسؤولية. ولكن لو تجاوزنا عن تكرار الهزل في موضع الجد من مسؤول يراقب الشعب كل ما يقوله، ويتصيد الإعلام كل هفوة له، في البلدان الأخرى على الأقل، يبقى إخفاؤه الوضع الحقيقي للحساب الجاري المصري لفترات مطولة خطأً جسيماً، لا يمكن تجاهله، ولا حتى من أنصاره. 

فمصر تعاني منذ سنوات من عجزٍ مزمنٍ في الحساب الجاري، نتيجة لاستيرادنا أكثر كثيراً مما نصدر، ولا يفلح صافي إيرادات السياحة وقناة السويس وتحويلات العاملين في الخارج في سد هذا العجز، وهو ما كان ينبغي أن يتسبب في تراجع قيمة الجنيه لتعكس حقيقة ارتفاع المطلوب من الدولار عن المعروض منه في مصر. 

لكن على مدار السنوات الثلاث الأخيرة على أقل تقدير، لم يسمح البنك المركزي المصري بضعف الجنيه، بل قواه بصورة مبالغ فيها، مستعيناً على سد الفجوة بالأموال الساخنة التي كانت تأتي إلينا طمعاً في "أعلى معدل فائدة حقيقي يتم دفعه في أي بلد في العالم". 

استكان صانعو القرار للحل السهل، فتكبدت البلاد المليارات التي كان يمكن توجيهها لتحسين وضع الميزانية العامة، قبل أن نصحو على كارثة خروج الأموال الساخنة التي تسببت في تأزم وضع الجنيه، واضطرارنا للهرولة لإنقاذ الموقف من خلال محاولات الاقتراض وبيع حصص الحكومة في بعض الشركات الناجحة. 

لا أعتقد أن الرجل مسؤول وحده عن وصولنا إلى هذا الوضع، ولا أعتقد بأحقيتنا في لومه بعد أن تركناه كل هذا الوقت بلا مساءلة حقيقية، وتجاهلنا حجب المعلومات التي تكون متاحة له ولفريقه لحظياً، لكن لا تعرض للرأي العام إلّا بعد مرور عدة أشهر، وفي الإعلان عن وصول الدين الخارجي المصري لأكثر من 157 مليار دولار بنهاية الربع الأول من العام، وهو ما لم يعلنه البنك إلا منتصف شهر أغسطس/ آب الحالي، رغم إعلان البنك الدولي الرقم قبل أسابيع، خير دليل على ذلك. 

لكنّ الدولة الحديثة لا تفعل ذلك، وتحرص دائماً على استقلالية البنك المركزي، فلا يكون لأي شخص مهما علا منصبه الحق الحصري في اختيار رئيسه، ولا يُترك صاحب المنصب الحساس فيها دون مساءلة أو محاسبة، ولا يسمح بإخفاء المعلومات من مصادرها الأساسية ولا يكون من يعرف بها من مصادر خارجية ثم ينشرها على الرأي العام معرضاً للاتهامات، إذ تعد الشفافية سمة مميزة للإدارة والمساءلة في الدول المتقدمة، ومنها الولايات المتحدة. 

في أميركا، يرشَّح رئيس ونائب رئيس مجلس إدارة البنك الفيدرالي من قبل الرئيس، ويصادق عليهما مجلس الشيوخ المنتخب بصورة حقيقية، بعد استجواب كلّ منهما على حدة، في جلسات منقولة على الهواء مباشرة، لمعرفة آرائه في أهم القضايا التي يواجهها، والتي يتوقع أن يواجهها، الاقتصاد الأميركي في السنوات المقبلة. 

ولا يلتقي رئيس الجمهورية برئيس البنك إلّا إذا دعت الضرورة القصوى، ولا ينتهي اللقاء إلّا بالإجابة عن كلّ أسئلة الصحافيين عما نوقش في الاجتماع، الذي لا يشمل بكل تأكيد توجيهات من البيت الأبيض للبنك بما يتعين اتخاذه من قرارات. 

وبخلاف ما هو معروف من مهام، تشمل الإشراف على عمل البنوك والمؤسسات والأنشطة المالية وتنظيمها وتوجيهها، يضطلع البنك الفيدرالي في أميركا بمهمة ضمان سماع أصوات ومخاوف المستهلكين، والناس بصفة عامة، من خلال إجراء الأبحاث وتحليل السياسات ومراقبتها بصورة تركز على مصالح المواطنين، وتعزز فرص وجود سوق خدمات مالية عادلة وشفافة لهم. 

وخلال فترة رئاسته للبنك، التي تمتد لأربع سنوات يمكن تجديدها، يُعد البنك الفيدرالي "تقرير السياسة النقدية"، الذي يستعرض فيه مختلف التطورات الاقتصادية المحلية والعالمية، والكيفية التي ينوي البنك التعامل معها بها، كما يقدم رئيس البنك شهادته أمام لجان تابعة للكونغرس مرتين على الأقل كل عام، أو في حالة وجود أمر هام يستدعي سماع شهادته فيه. 

ومرة أخرى، تُنقل هذه الشهادات على الهواء تلفزيونياً، وعلى قنوات غير مشفرة، وغالباً ما تحقق إيرادات ضخمة من الإعلانات التي تذاع في فترات الراحة، كونها تمتد في بعض الأحيان لعدة ساعات، وعلى مدار يومين. 

يلتزم رئيس البنك الفيدرالي بسماع أسئلة الصحافيين كلها، والإجابة عنها بمنتهى الوضوح، بعد كلّ اجتماع من الاجتماعات الثمانية التي يعقدها كل عام، ثم يُنشر محضر الاجتماع بعد مرور ثلاثة أسابيع، ليعرف المستثمرون والمحللون كيف يفكر صانعو السياسة النقدية. هكذا علمهم الآباء المؤسسون، وهكذا فعلوا، فلم يكن لأحد الحق في أن يلوم رئيس البنك بعد انتهاء مهمته، حتى لو سارت الأمور على نحوٍ لم يتمنوه، أو تعرضوا لبعض الأزمات. 

المساهمون