الناقة العمياء

الناقة العمياء

14 سبتمبر 2017
شوقي شمعون/ لبنان
+ الخط -

صديقي البَدويّ سُويلم فخورٌ بامتلاك قطيع جِمال
فازتْ قبل سنوات إحدى نياقه بالجائزة الثانية
في سباق دُبي للهجن
ليربح -فجأةً، ومن حيث لا يدري- مبلغًا كبيرًا من المال
طارَ به خبَبًا ليُودعه في بنك مسقط..

سُويلم أُمِّيٌّ بالفِطرة؛ لذلك يضطرّ أن يقف في الطابور ليَبصُم
أمام المُحاسِب في كلِّ مرَّةٍ أراد سحب مبلغ من حِسابه
لأنه لم يُفلح قطّ في استخدام البطاقة المُمغنطة
ولا آليّة تغيير رقمها السِّري.

■ ■ ■

رغم رحلاتي الدائمة كان سُويلم يزورني في مسقط
وأزوره في بَراح صحرائه المُنير بخيام القبائل الأولى..
ليفاجئني -كعادته- بعادته السَّيئة:
ذبح جَدْيٍ رضيعٍ من قطيع شِياهِه، رغم امتعاضي من كرَم
البُداة الذي لا سبيل لِحَضريٍّ مثلي برفضه أو محاولة التحايُل
عليه بادِّعاء أنني صِرتُ نباتيًّا!

كنا نسهر تحت النجوم
مُستمتعين بمِدوَخ غليونٍ وفناجين قهوة مِدرارة
انتظارًا لبزوغ بدرٍ مُرتجى في لؤلؤة الليل
لينسى سُويلم نفسه أحيانًا، فيتذكّرها جليَّةً كلؤلؤة أرخميدس
الدَّفينة في قلب الرِّمال
حين يترنَّم بأغاني بُداةٍ حفظها من خزين أسلافه
قبل أن يطلب مني قراءة فصلٍ من كتاب "الرِّمال العربية"
الذي أهديته إيّاه ليستمتع بالصُّور في أقلّ تقدير.

سُويلم كان مفتونًا بشخصية البَدويّ مبارك بن لندن
(أو ويلفرد ثسيجر)
عابر صحراء الرّبع الخالي مرَّتين في أربعينيّات
القرن الماضي..
لاحظتُ أنه يروي حكاياتٍ من فصول الكتاب
لم نقرأها معًا؛ فأخبرني أنَّ ابن جيرانه يدرس في مدرسة
البلدة المُتاخمة للرِّمال، وصار يطلبُ منه قراءة فصلٍ
من الكتاب مُقابل ريالين يصرفهما الفتى في الدّكان
القريب من مدرسته.

■ ■ ■

بعد طول انقطاع زرتُ سُويلم في صحراء خيمته
ليُنبئني بآخر مُعجزات المفازة:
ناقة عمياء انضمَّت إلى قطيعه إثر تعلُّقه بعينيها البيضاويْن
(لسبب مجهولٍ لم يُدرك وديعة أسبابه)
ليشتريها بثمن بخس من بدويٍّ أراد التخلّص منها.

بعد تناول تمَرات وشرب قهوة الضِّيافة
دعاني لمرافقته إلى مَربط الجِمال في الطرف الآخر
من الكثيب
سلّمتُ على أمِّه المشغولة بإعادة المواشي إلى حظيرتها..
لنرى الناقة العمياء شاهدًا حكيمًا أدركَ مِزوَلة الزمن
قبل اختراعها
ولم يعد مكترثًا لِزلّات شمسٍ تتكرّرُ كُلَّ نهار.

كانتْ وحيدة، وحين اقترب سُويلم منها وضَعتْ عُنقها
على كتفه مُداعبة إيّاه برِقَّة المُمتنّ لسِنام المكافأة
بخِطام العِرفان.
لحظتها، لحظتها فقط تأكّدتُ أنّ حياة البدويِّ
نياقه وليس رفاه حياته الشخصية.

هل تُصدِّق!
منذ اشتريتُها وحَبَّات البَرَكة تهطلُ عليَّ
ودونك، دونك مسبَحة الأمثلة:
شرَبتْ أُمِّي حليبها أربعين يومًا، وحين راجَعتْ الأطباء
هبطت مُستويات الضغط والسُّكري والكولسترول
لدرجة أنها عادت لوصفة أعشابها واستغنتْ
عن نقيع أدويتهم السّامة.
أحدثكَ عن أُمِّي التي جاوزت السّبعين عامًا
وهي -كما ترى- بخير وعافية تغزلُ وتخيط في خيمتها
لتحلب شياهها كُلّ صباح.

لا بأس صديقي
إنْ لم تُصدِّق معجزات ناقتي العمياء فدونك زُبدة الحكاية
التي لم أرْوِها لأحد سواك؛ علّك ترويها في أحد كُتبك:
مؤخرًا فازت إحدى نياقي الصغيرة بسباق "العَرضَة" وربحتُ ثلاثين ألف ريال أودعتها البنك؛ لدرجة أنّ مُدير الفرع استقبلني شخصيًّا وقدَّم لي التَّمر والشوكولاتة والقهوة ليستفيض في حديثه عن رأس المال. كنت صامتًا خلال حديثه؛ لكنني صُعقتُ لإمكانية وجود رأسٍ وذيلٍ لمالي الذي أودعته لديهم! صمتَ مُدير الفرع قليلًا، ثم اقترح عليّ (ليس بالكلمات التي نتحدث بها الآن)، بل بكلماتٍ لم أفهمها استثمارَ أموالي فيما أسماه وديعةً طويلة الأجل أو في أسواق العقار أو في المَحافظ الاستثمارية.

هذه واحدة من معجزاتها التي لا تُحصى
والأخرى عن سائح أسترالي زارنا قبل ثلاثة أشهر
اسْتضفتُه بذبيحة جعلَتهُ ينسى أرومَة الكنغر النَّطاط
حين شاهد بأمِّ عينيه عافية قطيع جِمالي؛ ليعرض عليّ
وظيفة شيخ مُدرِّبي الهجن في بلاده البعيدة
لكنني رفضتُ عَرضَه المُغري.

■ ■ ■

سُويلم يعرف أنني أتردد دوريًّا على تايلند للسياحة والعلاج
وفي سهراتنا كنتُ أمزح معه قائلًا:
لديهم فِيلة يركب على هوادجها السياح مُتمخطرين
على شواطئ الجُزر
فما رأيك لو تشحن بالطائرة إحدى نياقك
لتنافسهم في عقر دارهم؟
ضحك سُويلم من فصِّ قلبه، ثم أردف قائلًا:
لا أريد مُنافسة فِيلٍ بناقة
لكنني سمعتُ أنهم يُعالجون أفيالَهم في مُستشفيات خاصّة بها ويُدلّلونها ما وسِعَتهُم الحيلة؛ لأنها ترقصُ أمام السياح وتدلِّك أجسادَهم بأخفاف أقدامها. وهي تستمتع بابتلاع عُذوق الموز التي يُقدمونها مكافأة لها حين ترسم مثل صاحبك بُوكاسه لتنافس مدرسته المدوَّرة (يقصد بيكاسو ومدرسته التّكعيبية). ومثلما شاهدتُ في الفيلم الذي صوّرتَه بنفسِك؛ هي قادرة أيضًا على تحدِّي أفضل هدَّافي كُرة القدم البرازيليين في مُباريات كرةِ قدَم الأفيال.
...........................................
...........................................

لهذه الناقة العمياء أفضالٌ عليّ
وأتساءلُ إن كان بإمكاني علاجها ولو بمُعجزة صغيرة هناك
فهل تساعدني؟


* شاعر وكاتب عُماني ولد في المضيرب سنة 1962. تخرّج من "جامعة قطر" سنة 1986، وبدأ بالنشر في سن مبكّرة في دوريات عربية كـ"الكرمل" و"مواقف". مما صدر له في الشعر: "عيون طوال النهار" (1992)، و"كل ليلة وضحاها" (1994)، و"أبعد من زنجبار" (1997)، و"لعبة لا تمل" (2005)، و"عودة للكتابة بقلم رصاص" (2013). وصدر عنه "حياتي قصيدة، وددتُ لو أكتبها" من إعداد وتحرير سعيد الهاشمي (2014).

دلالات

المساهمون