ليتهادى الديناصور

ليتهادى الديناصور

15 فبراير 2017
ضياء العزاوي/ العراق
+ الخط -

مهما تضاءل الإنسان، لا يستطيع النجاة بجلده، ومهما تضاءلت المجتمعات لا تستطيع الإفلات من العواصف، والعكس ليس صحيحاً بالطبع. فحين ينسلخ الانسان عن مقومات هويته الإنسانية ويختبئ في هوية قومية، أو ينسلخ عن هذه ويختبئ في هوية إقليمية، أو يهجرها إلى أخرى قبلية، أو يغور عميقاً ويتلفع بهوية فردية (تسمى في هذه الأيام ليبرالية)، سيكون كمن يطلب النجاة بالتحول إلى ذرة تراب في عصر تحرثه الجرافات العملاقة وتراقبه المجسات البصيرة بالتراب وما تحته.

لكل هذا علاقة باللغط الفضائي الدائر حول "الهويات". الكل تقريباً كأنما استيقظ على خريطة بيضاء، وبدأ يرسم له مكاناً وبأصغر مقياس طمعا في النجاة. العالم أو ما يسمى "المجتمع الدولي" - وهو في الحقيقة تجمع الرأسمال المتوحّش - الذي يشدّد تكتله، يقترح على أصحاب القنوات الفضائية برامج "تصغير" إلى أدنى حد، على اعتبار أن الحكمة هي في التصاغر لا في البحث عن هويات أكبر أو أعظم (نصيحته أن أندر الأساطير الهندية يختبئ في زهرة لوتس طلباً للنجاة).

المفارقة في عصر التكتلات أن الوحيدين المطلوب منهم أن يتحولوا إلى ذرات هم سكان كوكب العالم الثالث، أو كوكب العشوائيات بتعبير المجتمعات الصناعية. في ذلك حكمة بالطبع، ولكنها حكمة الديناصور الذي ينصح كل الكائنات بأن تصغر حتى يتمكن من التهادي بلا إزعاج في الحديقة الجوراسية.

أعرف بالطبع كم هي ثمينة حكمة الديناصور بالنسبة له، ولكنني حتى الآن، وأنا أتابع برامج "المفكرين الاستراتيجيين" و "الخبراء" العرب بـ"الحركات الإسلامية" و"القارات" لا أعرف ما هو الثمين في إلصاق لافتات "عرقية" و"مذهبية" و"هندسية" بأمّة تكونت تاريخياً ومصلحياً ككيان كبير لا شظايا وذرات.

أحد مبتكري نظرية "الإنشاء" التي تُصدَّر فقط، ولا تُستهلك محلياً في بلاد الديناصورات، اجتهد في إقناع المتلقِّطين الصغار أن كل "هوية" قومية وغير قومية هي مجرد إنشاء خيالي لا يقوم على واقع أو وقائع من تاريخ وتجربة. أو هي مجرّد وهم.

واهتدى بهديه متلقِّط صغير وبدأ يعلّم أن الهويات - أي هويات - قاتلة.. وينصح بخلطة هويات جربها. ولا نكاد في هذه الأيام نشهد طاولة حوار فضائي إلا وكانت هذه الاطروحة الفذة طبقه الساخن، يوزع إما كشطائر أو وجبة سريعة على المشاهدين.

هذه ليست طريقة نجاة في عالم اليوم، بل هي أسهل طريقة لتكون النجاة معدومة، والطرقات ممهدة لعصر الديناصورات الجوراسية التي لم تنقرض بعد.

المساهمون