وقفة مع وحيد بن بوعزيز

وقفة مع وحيد بن بوعزيز

25 يوليو 2023
وحيد بن بوعزيز في مكتبة بالجزائر العاصمة، 20 تمّوز/ يوليو 2023 (إسلام بوعبد الله)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع شخصية ثقافية عربية في أسئلة سريعة حول انشغالاتها الإبداعية وجديد إنتاجها وبعض ما تودّ مشاطرته مع قرّائها. "طرح ابن خلدون مقولات تحليلية وتفسيرية لواقع ما زلنا نعيشه؛ إذ ما زال منطق القبيلة سائداً اليوم"، يقول الباحث الجزائري في لقائه مع "العربي الجديد".



ما الذي يشغلك هذه الأيام؟

- في هذه الأيام، تشغلني كثيرا أسئلة الواقع والتاريخ الجزائري. أعود إلى الدراسات الخلدونية، مُحاولاً فهم التمفصلات الواقعية في استمراريتها التاريخية، وأقرأ لمؤرّخين ومستشرقين وأنثروبولوجيين وعلماء اجتماع من الجزائر والمغرب العربي ومن الغرب، وكلّ قراءة أحاول أن تكون متأنّية وناقدة؛ لأنّ لكلّ ميدان سرديته وهيمنته الخطابية كما تعلم.


ما هو آخر عمل صدر لك وما هو عملك القادم؟

- آخر عملٍ صدر لي هو كتاب "بؤس النظرية" (منشورات ميم، 2023)، والذي حاولتُ فيه تبيين الآثار السلبية التي خلّفتها النظريات ما بعد الحداثية (الفرانش ثيوري خصوصاً) على الدراسات الثقافية، وذلك انطلاقاً من ميدان عملي: الدراسات الاستعمارية وما بعدها. لاحظتُ، عند قراءة أهمّ المنجزات العربية في هذا الميدان، أنّ الكثير يلهث وراء الدراسات الاستعمارية، متناسياً شرطيتها التاريخية والإبستيمية؛ فهذه الدراسات ترتهن لفضاء المنافي والهجرة؛ في حين علينا الاهتمام بالدراسات الديكولونيالية، أي تلك الدراسات التي تبحث عن تصفية الاستعمار في مجالات كثيرة.

تشكّل الذاكرة أكبر حرب رمزية بيننا وبين الاستعمار القديم

أفكّر الآن في المصطلح الذي وضعه والتر مينولو، "العصيان المعرفي"، في سياق بلورته للدراسات الديكولونيالية. أفكّر في تطبيقه على معظم الدراسات التي قاربت المغرب العربي والوطن العربي بالعودة إلى إنتاجنا، سواء كان حالةً خلدونية أو حالة أُخرى. لهذا أنا منكبّ على قراءة أعمال جادّة حاولَت فهم واقعنا التاريخي خارج إبستيميا المعرفة الغربية. هل نجحت تلك الأعمال أم لا؟ سؤال ليس وقته، ولكن أعتقد أنّ المهمّ الآن هو المبادرة، وخصوصاً ما يمكن تسميته الجرأة المعرفية. اخترتُ أعمال عبد القادر جغلول، وعلي الكنز، وعبد المجيد مزيان، وسمير أمين، وعبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري، وغيرتز وغيلنر، ولابيكا وبيرك.


هل أنت راض عن إنتاجك ولماذا؟

- لستُ راضياً عن إنتاجي؛ فهو بطيء جدّاً بسبب غياب مؤسَّسات تُفكّر في هذا المنحى. ما أفكّر فيه ليس حالةً فردية، بل توجد نخبة كبيرة تروم المسعى نفسه، ولكن، للأسف، تعمل هذه النخبة بطريقة انعزالية وفردية بسبب غياب سياسة ثقافية وفكرية.

ما يميّز الغرب عنّا ليس تفوّقه علينا في الذكاء - فهذه نظريات عرقية كما تعلم - بل قدرتُه على مأسسة الأفكار. ثمّة جانب سلبيّ في المسألة يتمثّل في احتواء السلطة لكلّ الخطابات التي تفرزها الجماعات المعرفية، ولكن لا بدّ من القول إنّ مقولة الباحث الفرد هي أقرب إلى الوهم، وكلُّ الإنتاج الفكري في العالَم الغربي هو نتاج عمل مؤسَّساتي داعم.

لا بدّ من الابتعاد عن الثقافوية والتركيز على ما هو اقتصادي

ولكي أكون أكثر واقعية، أسأل: هل توجد عندنا مثلاً مراكز للدراسات الثقافية والاستعمارية؟ ومراكز بحث تطاول الذاكرة الكولونيالية؟ ولو تحدّثنا عن سياسة الذاكرة، فهي، للأسف، تعالَج بطريقة سياسية صرفة... لا توجد مبادرات أكاديمية في هذا المجال، على الرغم من أنّ أكبر حرب رمزية الآن بيننا وبين الاستعمار القديم هي مسألة الذاكرة.


لو قُيّض لك البدء من جديد، أي مسار كنت ستختار؟

- لو قُيّض لي البدء من جديد، سأختار الطريق نفسه، ولكن سأستفيد كثيراً من أخطائي لكي أربح الوقت، فمعظم أخطائي هي من طبيعة استراتيجية ولأسباب لوجيستية. لهذا، أحاول دائماً أن أُجنّب طلبتي المشكلة التي اعترضتني، بغضّ النظر عن اختلاف المسارات والبراديغمات.


ما هو التغيير الذي تنتظرنه أو تريده في العالم؟

- الأساس الذي أبحث عنه هو العدالة الاجتماعية في العالَم. لا تغرّني كثيراً مقولة حقوق الإنسان حينما تكون بعيدة عن العدالة الاجتماعية، فالإمبريالية المتوحّشة، بشركاتها العابرة للقارّات وبرأسمالية المال، قسّمت العمل تقسيماً عولمياً غير عادل، جعل العالَم يعيش شرخاً وتوزيعاً غير عادل للثروة.

قد تبدو هذه الأفكار بالنسبة إلى الكثيرين باليةً ومتجاوَزة، ولكن مهما تغيّرت وضعيةُ البشر في سياق ما يُسمّى دول الرفاهية، فإنّ الأساس الأخلاقي لكلّ فكر يجب أن يضع بين عينيه الشرطية الإنسانية مع ربطها بالشرطية الاجتماعية. أعتقد أنّ الفخّ الذي سقط فيه المثقّفون في الغرب وفي الجنوب هو الانكباب والنضال من أجل الحقّ الإنساني بدون أرضية اجتماعية. لا بدّ من العودة إلى الواقع، ولا بدّ من الابتعاد عن النصوصية والثقافوية، بالتركيز على ما هو اقتصادي، طبعاً بعيداً عن الاقتصادوية.


شخصية من الماضي تودّ لقاءها، ولماذا هي بالذات؟

- ابن خلدون؛ طرحت "المقدّمة" مقولات تحليلية وتفسيرية لواقع ما زلنا نعيشه: ما زالت القبيلة ترتكز على العصبية بعيداً عن مركزية الدولة. اعتقد الكثيرون أنّ الاستعمار وبروز القومية قوّض الخلدونية، لكنّ ما نراه واقعياً هو أنّ الكثير من الدول الأوليغارشية ما زالت قائمةً على أساس تحالُف قَبَلي، وأنّ نهاية الاستعمار وسقوط بعض القوميات مهّد لعودة المكبوت. في حالة المغرب العربي، باستثناء تونس نسبياً، ما زال منطق وناموس القبيلة سائداً، فثنائية البدو والحضر انتقلت موروفولوجياً إلى داخل المدينة، فأصبحت المدن قرىً منتفخة.


صديق يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟

- دائماً ما أعود إلى كتب عبد القادر جغلول. أعتقد أنّ الكثير من القضايا التي طرحها في نصوصه لم تُفعَّل إلى الآن. استطاع هذا المفكّر الجزائري، الذي لا يقلّ أهمية عن المفكّرين العرب المروَّج لهم، أن يناضل ثقافياً على عدّة جبهات. كرّس بعض نصوصه للردّ على السردية الكولونيالية، وبعضَها الآخر للتعريف بالأنتليجنسيا الجزائرية، وبعضَها للتقعيد والبحث في ما هو محلّي، بعيداً عن الإسقاطات الغربية الاستعمارية. لا تقلقني خلفيته الماركسية الألتوسيرية. وعلى الرغم من اختلافي معه حول ما كتبه عن فرانز فانون، يعجبني تفتّحه الكبير على الجديد والحصيف، وأعلم أنّه لو عاش إلى الآن لطوَّر الكثير من مقولاته وآرائه.


ماذا تقرأ الآن؟

- "مجتمعات مسلمة" لـ إرنست غيلنر؛ كتابٌ مهمّ يتناول الكثير من القضايا الخاصّة بالمغرب العربي من وجهة نظر أنثروبولوجية، تحاول تجاوُز النظرة الاستشراقية الملوَّثة بالإشعاعات الاستعمارية.


ماذا تسمع الآن وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟

- بسبب ضيق الوقت، أستمع إلى الموسيقى في السيارة عادةً. أسمع الشعبي؛ مثل عمر الزاهي وكمال بورديب، وأحياناً المالوف بصوت محمّد الطاهر الفرقاني.



بطاقة

باحثٌ وأكاديمي جزائري من مواليد 1974، يعمل أستاذاً في "جامعة الجزائر2" بالجزائر العاصمة. صدر له: "حدود التأويل: قراءة في المشروع النقدي لأمبرطو إيكو" (2008)، و"جدل الثقافة: مقالات في الآخرية والديكولونيالية" (2019)، و"بؤس النظرية: مساءلات في الدراسات الثقافية" (2023). كذلك شارك في ثلاثة كتب جماعية: "ثقافة المقاومة" (2017)، و"العين الثالثة: تطبيقات في النقد الثقافي" (2018)، و"مساءلة الكولونيالية" (2021).

وقفات
التحديثات الحية

المساهمون