هراقليطس وبارمينيدس والمدرسة المختلطة

هراقليطس وبارمينيدس والمدرسة المختلطة

19 أكتوبر 2022
مانويل ريفاس في معرض كتابٍ بمدريد، 2016 (Getty)
+ الخط -

مدرسة مونيلوس الإعداديَّة هي أوَّل مدرسة مختلطة في غاليسيا. تقع في حيّ مجاور حيث كانت كتل الإسكان الاجتماعيّ الجديدة تحدُّ مزارع الذرة. كانت مدرسة ثورة وجنون. في بعض الأحيان، كان طلَّاب من مدارس دينيّة خاصّة يأتون إلينا كي يحضروا ذلك العرض: مشاهدة الفتيات والفتيان يخرجون معاً من الصفوف. الفتيان بسراويلهم العريضة من الأسفل، والفتيات بأوّلى التنانير القصيرة. كان الشعور مثيراً لمجرّد وجودنا معاً. ذلك اللهب الّذي يرافق قدرتنا على تبادل النظرات، في حين يشرح الأستاذ كايرو جدل التاريخ كلّه. إمَّا أن تكون بارمينيدس، حيث كلّ شيء باقٍ، أو أن تكون هراقليطس، حيث كلّ شيء يتّخذ مجراه. ومن المستحيل أن نغتسل في النهر نفسه مرّتين.

هراقليطس على حقّ، وفقاً لكايرو، كذلك الأمر لدى بارمينيدس.

إلى النهر أيتها الفتاة. ولنغتسل معاً! نستمرُّ ونبقى ونفيض معاً. لقد قال الكلاسيكيون كلَّ شيء تقريباً.

كلَّ يوم، كنت أذهب ركضاً، وبرغبة عارمة إلى المدرسة، بقدميَّ ورأسي. أنزل إلى القرية مشياً حتّى إلبينيا، قاطعاً، كمقاتل في قوات الفيت كونغ، الجادَّة الّتي كانوا يسمّونها "هو تشي مينه" بسبب كثرة الأشخاص الّذين يموتون عندها في حوادث سير، إلى أن تمكّنوا من إنشاء رصيف للمشاة. كان أحد أولئك الموتى الكاتبَ الجدّ مانويل دي كوربو سانتو. لم تقتل الحرب ذلك الرجل العابر. بل قتلته سيَّارة مجهولة هرب سائقها عند الجادَّة. وبقي مانويل هناك. سقط على وجهه عند غروب الشمس. كنت كلّ يوم أركض مجتازاً تلك الحدود الملغومة، ثمَّ أجتاز عبر الغابة بحراً من نبات الشيلم، ثمَّ طريق السكَّة الحديديَّة حتّى وصولي إلى حيّ لاس فلوريس، حيث يوجد مجمَّع للسكن الاجتماعيّ، يستحقّ بكلّ تأكيد أن يُطلَق عليه ذلك الاسم: حيّ الورود. كانت الأبنية ثمرة خيال معماريّ أراد مهندسوه إنشاءها بطريقة مميّزة تختلف عن النمط الّذي اتّسمت به أبنية الأحياء الأُخرى الجديدة والشبيهة بالسجون. لم تكن المدرسة الإعداديّة مجرّد هدف رائع للفتيان كي يسترقوا النظر إلى الفتيات فحسب، بل مركز يجذب الشبَّان بمختلف توجّهاتهم.

لم يتحمّس أبي للدراسة، كان يحبّ أن يراني معه في البناء

كنت أذهب ركضاً إلى المدرسة، حتَّى في أيَّام الأحد، عندما تكون مفتوحة. قضيت سبع سنوات في المدرسة الإعداديَّة المختلطة، وستّ سنوات في الثانويّة، وسنة واحدة في التوجيه الجامعيّ. تموضعَت المدرسة عند سفح الجبل بين الحقول والأراضي الزراعيَّة، بالقرب من "كنيسة أوزا" القديمة. كان البناء في السنوات الأولى أفضل من الحظيرة بقليل، له جدران وسقف خفيف الوزن، وقد بدا أشبه بجناح مؤقّت صامد في وجه العواصف بشجاعة. لكن، ماذا عن هراقليطس وبارمينيدس والفتاة الّتي تغتسل في النهر؟

كانت الدراسة بالنسبة لنا مغامرة خطِرة بعض الشيء، أقصد لنا أنا وماريا. وقد شجّعَنا على ذلك معلّما المدرسة الابتدائيّة، السيّد أنطونيو والسيّدة فينا. غير أنَّ الأمر أثّر في أسرتنا، وأدَّى إلى تفريقها بين مؤيّد ومعارض، ففي عالمنا كان من غير المعتاد أن يتابع أطفالُ أسرة من الطبقة العاملة دراساتهم بعد المدرسة الابتدائيَّة. لم يكن أبي متحمّساً كثيراً للأمر. أنا أفهمه الآن. كان يحبُّ أن يراني معه في البناء أكثر. أمَّا ماريا فقد عثر لها على عمل كبائعة في متجر أحذية. ليس الأمر سيّئاً، أليس كذلك؟ ذهبت ماريا لأسبوعين كفترة تجربة، وذات يوم عادت من العمل وقالت: "لن أذهب بعد اليوم، أريد أن أدرس". وماريا حاسمة عندما تكون أفكارها واضحة. هكذا حزمت أمرها، وتابعنا دراستنا.

سجّلت ماريا في مدرسة "لا ميلاغروسا" الثانويّة، وهو مركز حكوميّ مرتبط بدار أيتام المفوضيَّة. في الثانويَّة فازت ماريا بمسابقة كتابة رعتها شركة دوليَّة، شاركت فيها جميع المراكز التعليميَّة العامَّة والخاصَّة. اجتازت، أوّلاً، المستوى المحليّ، لا كورونيا، ثمَّ على مستوى إسبانيا بأكملها. تضمَّنت الجائزة رحلة إلى بويرتو ريكو. تصدَّر عناوين الصحف خبرُ ابنة عامل البناء الّتي فازت بالجائزة الوطنيّة للكتابة. كانت القصَّة الّتي كتبتها ماريا، وهي في الرابعة عشرة من عمرها، نصّاً غريباً مكتوباً بإحساس شخص ليس له جلد، لكنّه يشعر بكلّ شيء، ويتحمَّل الضربات من أجل إكمال قصّته. حياة الشجرة، وحياة الأشخاص المحيطين بها، ثمَّ اقتلاعها، ورحلتها الطويلة في شاحنة إلى المنشرة حيث ستُقطع أخشابها.

إنَّه نوع من الكتابة التي تحرّضك على أن تسأل: كيف تتمّ هذه العمليّة كلّها في وقت قصير؟ بعد سنة من تسلّمها الجائزة، تخلَّصت ماريا من كلِّ الجوائز الّتي تلقَّتها من الشركات العالميّة، من وزارة التعليم ومن منظّمات أُخرى. تخلَّصت من كلّ شيء ما عدا بعض أقراص الموسيقى البويرتوريكيّة وكتاب الأعمال الشعريَّة الكاملة لطاغور. أحرقت كلّ شيء في الحديقة أمام أمّي الصامتة. كانت تعلم أنَّ الحريَّة مؤلمة كذلك. وفي داخلها كانت ماريا تكبر كامرأة حرَّة بعينين كبيرتين واسعتين. أتذكَّر أنَّها لم تتوقَّف عن البكاء يوم الانقلاب العسكريّ في تشيلي وموت سالفادور أليندي. كان هناك من عرف سبب بكاء ماريا، وآخرون لم يعرفوا، فسألوا: "لماذا تبكي هذه الفتاة؟" وأمّي بقيت صامتة.

كان لدينا أصدقاء مشتركون نلتقيهم في الطريق، فقد درسوا جميعاً في مونيلوس، مكان الدراسة والرغبة في آن معاً، مكان الشهوانيَّة. اليوم يتحدَّثون عن التناقض بين المكان واللامكان. هناك أيضاً المكان الآخر، حيث تولد حياة جديدة ويحدث شيء ما: توافق سيكومكاني، هيئة تدريس خاصَّة، وجيل متمرّد أراد أن يقول ما لا يمكن قوله.

اختبرنا الحريَّة، الخطيئة الكبرى في إسبانيا

 في أحد أيّام السبت، طلبنا مكاناً يجري استخدامه كصالة من أجل القيام بنشاط ما ينظّمه الطلَّاب. كانت المجموعة الأكثر شجاعة في مدرسة مونيلوس تتألَّف من ثيلسا وخوانا وتشوكي ولوثيانو، وهم من قرأوا قصيدة بريخت. من الممكن أن نطلق على ذلك اليوم شعار: "غرق سفينة أوسكافا بسبب طاقمها". كثيرون هم الّذين استمعوا للمرّة الأولى إلى أغاني "الأصوات الحرَّة"، التي كان ممنوعاً الاستماع إليها في أيّ مكان عامّ آخر. مثّلنا مسرحيَّة "تعاليم الفلَّاحين" لفالنتين لاماس، ومسرحيَّة "العمّ ماركوس دي بورتيلا"، وهو صحافيّ أعمى متمرّد، كتبها في أواخر القرن التاسع عشر.

- هل أنت فلَّاح؟

- نعم، لسوء حظي! 

مَن سأل وقام بدور الكاهن هو بيدرو مورلان. وأنا مثّلت دور المزارع. ربَّما مثّل مورلان دور الكاهن بشكل رائع، وقد ساعده في ذلك شكله، بحسبان أنَّه شابٌّ شاحبٌ، طويلٌ ونحيل ومتمرّد. كان المثل الأعلى. حلم الثوّار القائم على الأرض. وثمَّة معلّمون محافظون، هم أنفسهم غريبو الأطوار. حتَّى إنَّ الكهنة انتموا إلى الجانب الأحمر، أوّلهم السيّد ماوريليو، ورودريغيث بامبين، الكاهن الذي انضمَّ إليهم فيما بعد، وقد كان شخصاً خجولاً، دائم القلق والتفكير، كأنَّه يحمل ثقل العالم وأحجاره كلّها على كاهله.

أمَّا الكاهن الثاني، فكان عكس الأوّل تماماً، أقصد ماوريليو؛ هو رجل صغير الحجم، بارز العضلات ونشيط. بدا وكأنَّ جسده بأكمله يعمل من أجل صوته كي يحافظ على نبرته، ولا سيّما في أثناء الدروس التعليميَّة أو الواعظة، الّتي تتطلَّب رزانةً معيَّنةً. بفضل هذا الكاهن الذي كان ابن مزارعين من قشتالة، عرفنا، ونحن في الرابعة عشرة من أعمارنا، مَن هو هيلدر كامارا، الأسقف البرازيليّ من أوليندا، الذي ناصر لاهوت التحرير، إضافة إلى إرنيستو كاردينال أو كاميلو تورريس، الكاهن المحارب الكولومبيّ. علّمنا أيضاً مفاهيم أساسيَّة مثل مدرسة التحليل النفسيّ. تعلَّمنا أموراً جوهريَّة، وصار بإمكاننا قراءة الإنجيل، وفهمنا جيّداً أنَّ المسيح إن عاد فسيُصلَب مرَّة أُخرى على الفور.

كان لا بدَّ من رؤية مواكب أسبوع الآلام، ومشاهدة الكاهن ماوريليو وهو يبيّن فكرة وجود الله، بدءاً من الفيلسوف الملحد ألتوسير، الّذي حظي بشعبيَّة كبيرة. لقد كان عرضاً رائعاً. وأقول رؤية الله لأنَّه كان يستخدم السبّورة كثيراً كي يشرح هيكليّة البنية الماركسيَّة دون أن يخرج عن الحدود التي يرسمها على السبّورة الشمعيَّة. ظهر الله أعلى السبورة، على عرش البنية. ولم تكن هناك طريقة أفضل لإزالة الريبة الدينيّة إلّا رؤيته وهو يلعب كرة الباسك. اعتاد الكاهن أن يشمّر عن ساعديه، متحوّلاً إلى بنية تحتيَّة لا يمكن الانتصار عليها. حتّى جدران الملعب تستسلم له! بالقرب من المدرسة المختلطة، وبحضور سيَّارات الجيب، ردَّد رجال الشرطة المسلَّحة بشجاعة نادرة تراتيل الصلوات الجنائزيَّة على روحَيْ عاملَي بناء حوض السفن، قُتلا في فيرول في أثناء إحدى المظاهرات، في العاشر من آذار من عام 1972.

كان بامبين يتحدَّث الجاليكيَّة ويتكلَّم نحو الداخل. إذا ما أخذنا في الحسبان أنَّ الإله الّذي يؤمن به ماوريليو هو إله تاريخيّ متفائل من طليعة المنهج البنائيّ، فقد يُخيّل للمرء أنَّ الإله الذي يؤمن به بامبين هو مخلوق ضعيف وواقعيّ مستعدّ لمدّ يد العون إلى هذا المعدم البائس، مخلوق يحتاج إلى الحماية أكثر من كونه جبّاراً. أخبرني باميين ذات يوم أنَّه يريد أن يعطيني شيئاً ما، فذهبت معه إلى المكان الذي يعيش فيه. غرفة متواضعة جدّاً. هناك، خلسةً، أعطاني كتاباً وقال لي: "خبِّئه تحت ملابسك ولا تخرجه حتّى تصل إلى المنزل". كان كتاب "دائماً في غاليسيا" لكاستيلاو، الذي كتبه في المنفى ونشره في أميركا، وقد عُرف بالإنجيل الغاليسيّ.

من سلالة أولئك الذين يقولون بسخرية وألم ما مُنع أن يُقال

في بيتنا، تناقله جميع أفراد أسرتي، ولم يُطفئ أحدٌ الضوء. كانت حياة ذلك الكتاب تقوم على الخفاء والخلسة، إذ انتمى إلى سلالة أولئك الذين يقولون بسخرية وألم ما مُنع أن يُقال. كتبه رجل يوشك أن يفقد بصره، عجوز هرم مهزوم ومسحوق أثقل عليه شعوره بالذنب من جرّاء تقدّم النازيَّة. عند المساء، اعتاد كاستيلاو أن يرى من غرفته كيف تُضاء نوافذ الغرف الأخرى في منهاتن. شعر بالإحباط والوحدة وكتب: "أنا ابن وطن مجهول". إنّما، شيءٌ غريبٌ حدث، هاج البحر، ومضى إلى هارلم مشياً في يوم شتائيّ، راسماً شابّاً متسوّلاً أسود البشرة. ربَّما كانت تلك أفضل لوحات حياته. وبينما تقرأ أمّي في الإنجيل العلمانيّ، أصغي: "ما هو الثالوث المقدَّس في غاليسيا؟" البقرة والسمكة والشجرة. الكاهنان ماوريليو وبامبين رجلان طيّبان في زمن ليس كذلك. الكنسية التي ينتميان إليها لم تكن طيّبة معهما. كانا شجرتين بلا أرض.

 إنّما، في تلك الفترة حدث شيءٌ آخر. زار رجال الشرطة السريَّة، القسم السياسيّ والاجتماعيّ، إدارة المدرسة المختلطة. حينها انتهت فعاليات هدم سفينة أوسكاوا من قبل طاقم الطلَّاب أيَّام السبت، وانتهت تجربتنا في حريّة الصحافة والطباعة والتعبير على الآلات الكاتبة. أخبرتنا إدارة المدرسة أنَّ كلّ ذلك من أجل مصلحتنا، كانوا أشخاصاً طيبين، وقد علَّمونا أن نغرف من التاريخ بعمق. لكن الآن جاء دور الخوف، فقد اختبرنا الحريَّة، الخطيئة الكبرى في إسبانيا. ما لا يمكن قوله، خبَّأناه بين تجاويف الأسنان. كنَّا قد استمعنا إلى ميغيل سيرفيت بلسان الأستاذ كايرو: "أحمل حريَّتي معي". وحينما كنّا نخرج من المدرسة، كانت هناك دائماً سيَّارة مشبوهة ونظرات مخيفة. مدرسة حريَّة ديل أرابال، بفتيانها وفتياتها، كانت محطَّ الأنظار.


* ترجمة عن الإسبانية: جعفر العلوني، والنص فصل من رواية "الأصوات المرتعشة" التي صدرت هذا العام عن دار نينوى

المساهمون