هاني زُعرب... رسّام غزّة يستعين بـ"إكسير الذاكرة"

هاني زُعرب... رسّام غزّة يستعين بـ"إكسير الذاكرة"

27 ابريل 2024
"عودة إلى الأزرق"، قار ومواد أُخرى على قماش، 2020 (من المعرض)
+ الخط -
اظهر الملخص
- هاني زعرب، فنان من مخيم رفح، يستخدم الفن كوسيلة لمقاومة محاولات المحو والتلاعب بالتاريخ، مدمجًا بين الذاكرة الشخصية والجماعية لعكس تجارب الفلسطينيين مع الاحتلال، مستخدمًا مواد مثل الزفت والزجاج.
- معرض "إكسير الذاكرة" في "المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة" يعرض أعمال زعرب التي تستكشف الذاكرة كمادة خام للإبداع، مستخدمًا الزفت كرمز للذكريات الثقيلة ومعالجًا مفاهيم من العالم الرقمي.
- أعمال زعرب، مثل "درس في الطيران" و"حرب البنانير"، تعكس تجربته مع الهوية والاغتراب، مؤكدًا على أهمية الذاكرة كمرجع للهوية والصمود أمام التحديات، وتمثل رحلة بحث معرفية وجمالية لتثبيت الهوية الفلسطينية.

في لحظة تتوجّه فيها أنظار العالم إلى رفح حيث تسوّق ماكينة إعلام الاحتلال الصهيوني أن اجتياح المدينة التي تحتضن حوالي مليون وثلاثمئة ألف نازح من قطاع غزّة أصبح وشيكاً، يراكم هاني زعرب عبوره في المنفى الذي يشكّل برزخاً بين ماضِ لا يكلّ من استعادته، وبين حاضر تغدو فيه الرؤية أوسع والمنظور أكثر تعدّداً وتحفيزاً على التجريب.

يتوهّم العدو أن انتصاره يتحقّق مع اجتياح سيفضي إلى مجزرة كبرى مرتقبة، يتساءل الغزّيون عشيتها إلى أين يذهبون بين خيارين أحلاهما مرّ؛ الإبادة أو التهجير القسري، فيأتي اقتراح الفنان الذي وُلد في مخيّم رفح عام 1976 وعاش فيه طفولته، في تثبيته سردية تاريخية يندغم فيها الشخصي والعام، حياة الفرد ومصير الجماعة، ضمن مواجهة مفتوحة ضدّ المحو والتلاعب.

تحضر هذه الخلفية عند دخول الزائر إلى معرض زعرب، الذي افتتح مساء الأحد الماضي في "المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة" بعمّان، ويتواصل حتى الثاني عشر من الشهر المقبل بالتعاون مع غاليري "ARTZOTIC" الرقمي.

ليس عبثاً أن يختار الفنان "إكسير الذاكرة" عنواناً لمعرضه، إذ يعني الإكسير في المعجم تلك المادة المركّبة التي تحيل إلى مختبر أنشأه زعرب وطوّره خلال نحو عقدين، باستخدامه الزفت والزجاج ومواد مختلطة، ومثّل الزفت علامة فارقة في تجربته، متعاملاً مع مادة ثقيلة وكثيفة ولاصقة كما الذكريات التي لا تزول مهما تشطّى الإنسان بفعلها وتأثّر.

مختبر أنشأه وطوّره خلال عقدين باستخدام مادّة الزفت

وسنجدُ في المعجم معنى ثانياً يدلّ على ذلك الشراب الذي سعى الكيميائيون القدامى إلى تصنيعه أملاً بإطالة العمر، حيث يسير زعرب على هديهم حفراً في تلك الذكريات التي لا يريد التفريط بها، ويطيل التأمل فيها، تدفعه إلى مزيد من الصمود والتمسّك لتكون نقطة مرجعية للهوية والتجذّر في المكان.

ذاكرةٌ تتكوّن من طبقات شكّلها الحدث الذي لم يمرّ في حياته سهلاً، ممتزجاً بالأحداث الني صاغت تاريخ الشعب الفلسطيني خلال قرن مضى، حيث خرَج من رفح إلى نابلس فدرس الفنون الجميلة في "جامعة النجاح"، ثم انتقل بعد ذلك إلى رام الله التي أقام بها منذ نهاية التسعينيات حتى عام 2006، في فترة شهدت "انتفاضة الأقصى" التي عبّرت عن احتلال فرض هيمنته وعدم اعترافه بوجود الفلسطيني الذي اختار - كما في كلّ مرّة - المقاومة.

زعرب، الذي "يقيم" اليوم في باريس، يقدّم أعمالاً متنوعة في مضامينها وطروحاتها حيث ينفّذ مفارقة بسيطة وحادّة في عملٍ نفّذه عام 2018، ويتّخذ شكل علبتيْ سجائر يكتب عليهما بالإنكليزية: Occupation kills، وZeft kills تباعاً، وتعلو الكتابات مساحة من الزفت الذي طوّعه فوق الكانفاس بما يقارب خطوط وتصدّعات الزمن الذي يمارس فعله الدائم، وأثبتت أن الاحتلال لا يُختزل إلا بفكرة القتل.

يذهب في لعبة الشكل أبعد من ذلك في عمل "اطبع أيّ اسم" (2013)، ضمن سلسلة "حبّ بجودة منخفضة"، والذي يتضمّن ثلاثة قلوب بأوردتها وشرايينها وتفاصيلها وكأنّها منزوعة من صدورها لتأخذ حضورها في الواقع الذي نعيشه، حيث تتجاور القلوب وكأنّها خلف قضبان لا تؤطر كامل اللوحة، إذ تبدو الخلفية وراءها تُشبه تصويرات يعتمدها زعرب في أعمال أُخرى للإشارة إلى مساحات التذكّر التي يغوص بها المرء، ويظهر أسفل القلب في اليسار مستطيل كُتب في داخله عنوان اللوحة بالإنكليزية "Type any name".

الصورة
اطبع أي اسم
"اطبع أيّ اسم" (2013) من سلسلة "حبّ بجودة منخفضة"

استعارات من العالم الرقمي تعمّق المفارقات التي يحياها الإنسان في الواقع، حيث يمكن أن يذكّر القلب باسمٍ يلحّ على بال أيّ متلقّ، في تجريدٍ متعمّد لاستذكار حبيب أو قريب، بكلّ ما تفرضه تجربة كهذه من مشاعر مختلطة يمكن أن يسترجعها المرء حين يقوم بفعل بسيط لكنه يحمل دلالات مركّبة!

لا تتوقّف المغامرة عند هذا الحدّ، في الأعمال المختارة لفترة زمنية تعود أقدمها إلى عام 2011، في عمل بعنوان "درس في الطيران رقم 8"، الذي يكثّف تجربة الفنان حين حاول الردّ على سؤال ابنه قدسي وهو يودّعه في باريس مع زوجته: لماذا لا تأتي معنا يا أبي؟ إذ لم يستطع أن يخبره بأنه لا يمكنه الذهاب معهما إلى القدس لأنه يحمل بطاقة هوية تُمنح لأهل غزّة وتحرمهم من زيارة بقية وطنهم.

درسٌ في تخيّل الوطن يمثّله العمل الذي رسم في كادره طفلاً يجلس على كرسيّ وفي الأعلى طائرة، تذرّع زعرب لطفله بأنه يخاف ركوبها كإجابة يتهرّب بها من الواقع، لكنها توحي بخوف أكبر ربما حاول أن يتحرّر منه في سلسلة "درس في الطيران"، مازجاً بين أحلام قدسي وحنين زعرب وبين عالم المنفى؛ رحلة عودة متخيلة بوطنٍ يحتضن الطفل وأباه.

عن هذه الرحلة التي غطّت تجربته بين عاميْ 2002 و2012، كتَب الفنان والناقد والمؤرخ الفلسطيني كمال بُلّاطه (1942 - 2019)، في كتابه "بين المخارج: لوحات هاني زعرب"، وأضاء عليها في سياق المرحلة الزمنية التي تعكس حضور الذاكرة الجمعية في الحياة اليومية للفلسطيني وما يسكنه من اغتراب وصدمة وحنين.

ممارسة موجعة يتشارك فيها الفنان مع المتلقّي

في حديث مع الفنان أُجري عام 2021، قدّم اعترافاً حول عمل "حرب البنانير"، بطول مترين وعرض مترين، هو الوحيد في حياته الذي بعد أن عرضه في 2007 رسَم فوقه، وكان قد وضعه بُلّاطه غلافاً لكتابه "الفن الفلسطيني من 1850 إلى حاضرنا"، الذي صدر بالإنكليزية سنة 2009، لأنه رأى فيه المسيح وأحبّ فكرة أن يكون المسيح من غزّة، معلّقاً حينها أن ما يحدث فيها ستُبنى عليه أشياء أكثر مما نتخيّل.

الصورة
"حرب البنانير رقم 8، 2007” مواد مختلفة على قماش، 200x200 سم
"حرب البنانير" رقم 8، 2007، مواد مختلفة على قماش، 200x200 سم

ويضيف أنه بعد أن شاهَد العمل في قاعة العرض، أعدمه عملياً بعد أشهر عدة، لكنه لم يُخبر بُلّاطه عن الأمر بعد صدور الكتاب. وفي تفاصيله التي رسمها بأقلام الباستيل، أشخاص صغار الحجم يدورون حول شخص ذي شارب كبير وعينين غاضبتيْن، والمثلث الذي كان يرسمه طفلاً مع أقرانه على الأرض وهم يلعبون لعبة "القلول" أو "البنانير". وتحوّلت لوحة "مسيح غزّة" إلى "الربيع العربي لم يكتمل بعد.." التي أنهاها زعرب بعد محو وإضافة عام 2011، لتقدّم مساراً جمالياً وفكرياً تحكمه تجربته، ورؤية حسيّة موازية ومستمرة لما استنبطه كمال بلّاطة.

الصورة
"الربيع العربي لم يكتمل بعد"، 2011، مواد مختلفة على قماش، 200x200 سم
"الربيع العربي لم يكتمل بعد"، 2011، مواد مختلفة على قماش، 200x200 سم

اعترافٌ يعكس حساسية الفنان تجاه عمله الذي لم يرض عنه فاشتغل فوقه لكن أثره لم يغب، وكذلك ندمه حول ما فعل، بالنظر إلى الجرأة بحسب وصفه للأسلوب الذي قدّم به العمل. حساسية وندم ليسا عابريْن أو منقطعين عن زمن رديء ومليء بالخيبات والإنكسارات، ولا سبيل إلا لمقاومته من خلال التذكّر؛ ممارسة قاسية وموجعة ومتعبة، يتشارك فيها زعرب مع المتلقّي بين تشخيص بعض ما اختبره من "هشاشة" في عملية استرجاع أبدية وبين تجريد لأفكار تنبع من رحلة بحث معرفية وجمالية لتثبيت "قوّة" الذاكرة كمرجعٍ للهوية والصمود.

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون