رفح ومغامرة القاتل الأخيرة

رفح ومغامرة القاتل الأخيرة

27 مارس 2024
فتىً يجلس أمام منزله وقد دمّره العدوان، رفح، 24 آذار/ مارس 2024 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الأزمة في غزة تتجلى في تحول القاتل إلى سجّان، مع فقدان المعنى التقليدي للحرب ليحل محله وصف قتام يشبه المذبحة، حيث تبرز مشاهد الدمار والخراب.
- الدور الأمريكي والغربي يظهر متناقضًا، مع دعم مبطن للصهاينة يسمح بتفشي العنف، معكسًا نفاقًا دوليًا وعجزًا عربيًا وإسلاميًا أمام المجازر.
- الوضع في غزة يتجاوز كونه نزاعًا على الأرض ليصبح استباحة للحياة، مع تأثير عميق في الوجدان العربي والإسلامي، ودور أمريكي في تغذية العنف.

مع رؤية القاتل طليقاً وسطَ سجنٍ أنشأه، وملك مفاتيحه، وصار له أن يفرض سلطة الموت على قاطنيه، فقدنا اللغة التي نألفها، حتَّى إنَّ إطلاق لفظ حرب على ما يحدث في غزَّة يحتاجُ إلى مراجعة وتدقيق. لأنَّ الحرب كما يخطر لقارئِ اللغة المألوفة، نِزالٌ بين قوّتين، صراع بين جيشين. لكن تلك "الحرب" التي نراها على الشاشة، ونقرأ أخبارها، تظهر أشبه بصناعة للجحيم يقوم بها قتلةُ أطفالٍ ومهووسون. أقرب أن تكون غزوةً يقوم بها دخلاء أشرار وأوغاد. المؤكّد أنَّها عدوان، واستباحة وإبادة. يعزُّ على المرء أن يرى شواطئ غزّة، أن يرى أبنيتها قبل القصف، ويراها بعد قصف الطائرات ودكّ الصواريخ لها. ساءَ من رأى. 

ويصعب قبول الحرب تعريفاً للمذبحة المفتوحة. ولو أن الانشغال بالتوصيف نفسه بالمبدأ، أمرٌ أشبه أن يكون بتمائم إنسان عاجز، لم يعد لديه ما يقوله إلّا أن يصرخ، مشدوهاً ومُحْتَقِراً ومشلول التعبير، وقد تجاوزه الواقع، وقد رمى بهِ واقع القتل الذي أحدثه الصهاينة، مثل جثّة ممدّدة في أرض خلاء.

فلسطين، جسدٌ يُقطَّع، مادةٌ تفجَّر بما فيها من بشرٍ وتراب. وفي الحاضر الذي نعانيه، يلمحُ المرء أن الأشلاءَ التي تناثرت، فجَّرت معها شيئاً من توصيفٍ كان يراوح بين أن تكون غزّة زنزانة أو مذبح. خرجَ السجناءُ من قيودهم، خرجوا من السجن إلى الموت، وبموتهم أطلقوا قيوداً على مَن شاهد القتلَ. وعلى مَن أراد للقتل أن يُنجَزَ بسرعة. إلا أنَّ الصهاينة أطالوا أمدَ بقاء السكّين على الرقبة. ومع إطالة أمدِ القتلِ، غامر القاتلُ بانكشاف مشروعه المروّع، الذي يضمر مفردةً واحدةً، وهي الفناء. 

يصعب قبول الحرب تعريفاً لواقع هذه المذبحة المفتوحة

تُصرِّح أميركا باستمرار بأنَّها ترفض عمليةً يعتزم الصهاينة القيام بها في رفح، حيثُ طلب العالَم من الفلسطينيّين أن يخرجوا إلى رفح ليحفظوا أراوحهم، وأميركا تقول إن العملية سوف تَعزل "إسرائيل". لكن جميعنا يعرف أنَّ لأميركا - ومن وراءها الغرب - خطابين؛ واحدٌ يصدرونه إلينا وللعالم، وآخر يوجّهونه للصهاينة كي يفعلوا ما يشاؤون. فدمُنا مُباح، ونحن أعجز عن القول أو الاعتراض. الأمر الوحيد الذي بوسعنا أن نقوم بهِ، هو اعترافنا بأنَّنا شهدنا المذبحة. وإدراكنا، أنَّ الجريمة الإسرائيلية الكبرى على وشك أن تحدث في رفح، وبأنَّنا نشهد مذبحة قامَ بها قتَلة أطفالٍ ضدَّ سجناء في أقسى عملية عقابٍ جماعي يُمكن أن تحدث. مهووسون وقتلة، محتلون وسجَّانون أفردوا سلاحهم على مَن هم تحتَ أَسْرهم، عُزَّلاً وأبرياء.

لكن هل ينفع ذلك الحدس المروِّع بأنَّ المذبحة سوف تستمرّ في رفح؟ أم أنَّه تفكيرٌ بذاته مقتَلةٌ وضيق. وما الذي بوسع الناس أن يفعلوه وسط الاستباحة، وهي ليست استباحة للتاريخ كي يقارعه الإنسان بتاريخٍ مضادّ، وليست استباحةً لـ"لقانون الدولي" فحسب، كي يغزل الإنسان قانوناً يتعزَّى به. إنَّها استباحةٌ للبشر، استباحةٌ وقتلٌ للجغرافيا نفسها. حتى ولو خرج الردم من غزّة ليبني ميناءً أميركيّاً، فإنَّه رَدمُ قتلٍ. هذا تعريفه. وهو غزوٌ يشيرُ إلى تضييق الأرض على أصحابها... صرنا نعرف أنَّ هناكَ أُناساً قُتلوا بسبب صناديق مساعدات نزلت فوقهم، ونعرف أن فلسطين - التي في خاطرنا ووجداننا - لا تملك حدودها. ونعرف أنَّ شعباً برمّته، مُحاصر من جهات الأرض. والبحر، صارَ ردمَ قتلٍ بعون أميركا. 

ما الذي تودُّ أميركا قوله، ولمن تودُّ القول. فالناس هنا يعرفون بمقتل مليون عراقي بناءً على كذبة. الناسُ هنا يعرفون أنَّ أهل غزّة سجناء. وقد سجنهم الاحتلال الإسرائيلي. ثمَّ قرّر كما لو أنَّه قد سئم وظيفة السجَّان، أن يصير قاتلاً مباشراً. وهكذا، صعدَ جنوده أسوارَ "السجن مشدَّد الحراسة" وفق تعبير إيلان بابيه، وأعملوا بنادقهم بالأبرياء. وهذه هي الحكاية التي سوف تحفظها شعوب المنطقة. 


* روائي من سورية

 

موقف
التحديثات الحية

المساهمون