دول هادئة أمام المجزرة

دول هادئة أمام المجزرة

25 مارس 2024
طفلة ناجية تخطو فوق حطام مسجد الفاروق الذي دمّره العدوان، رفح، 22 آذار/ مارس 2024 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الوضع في غزة يعكس فشل النظام الدولي في حماية الأبرياء واسترجاع حقوقهم، مما يطرح تساؤلات حول فعالية القوانين والمؤسسات الدولية وقدسية حياة الإنسان.
- الظلم والعنف في غزة يُظهران كيف يُرفع الباطل ويُكسر الحق، مع تمتع الجناة بامتيازات دون مواجهة عقاب، بينما يُلاحق الشرفاء للتعبير عن آرائهم.
- الأمل ما زال قائمًا في صمود الروح الإنسانية والإيمان بزوال الباطل، مع الحاجة إلى وعي ونشاط دائم لمواجهة الظلم والعمل من أجل النجاة والكرامة للجميع.

لا أعتقد أنَّ هناك في التاريخ الحديث على الأقلّ حالة تشبه حالة أهل غزّة، حيث تُفرَض على الناس أصناف مختلفة من الموت والعذاب وسوء المعاملة، ويستمرُ الأمر ويستفحل وتنعدم الآفاق بانفراجة توقف المقتلة والدمار. ويزداد الأمر سوءاً مع المعرفة بأنّ القتَلة المجرمين الصهاينة يتمتّعون بكل الامتيازات غرباً وشرقاً، وأنّهم لا يواجهون أيّ عقابٍ أو رادعٍ، بل يُلاحَق الشرفاء في كلّ مكانٍ لقول أبسط الأشياء عمّا يحدث في غزّة.

الباطل بكلِّ أشكاله مرفوع، والحقُ بكلّ أشكاله مكسور في هذه الحالة. إنّه لتحدٍّ كبير للعقل البشري أن يكون شاهداً على واقع كهذا، ويُطلب منه أن يستكين للصمت وتجاهل المجزرة.

إنّ ما يحدث في غزّة يضعنا أمام السؤال عن الفكرة الشائعة بأنّ حياةَ الإنسان مقدّسة، وقدسيّتها تتفوّق على كلّ شيء. والحديث عن القوانين الدولية أو النظام العالَمي بوصفه راعياً لنظام وقداسة حياة الإنسان وحقوق الإنسان عامّةً يشبه العبث، والرغوة اللغوية التي لا تساوي الهواء التي تبثّ فيه. القانون والنظام الدولي والمؤسّسات الدولية كأطر حلّ واسترجاع حقوق كلّها تهاوت أمام مأساة غزّة. 

الإبادة في غزّة مقدّمة لتطبيع العنف عالمياً وجعله اعتيادياً

وأستدرك بالقول إنّ هذه القتامة ليست محض خيال، فضحاياها كثرٌ والنزيف منها ما زال في الذروة. وأستدرك بالقول أيضاً ما زال الحديث يأخذ منحى فلسفياً: إنَّه من الواضح أنَّ هناك أغلبية في العالم ضد الإبادة في غزّة، وهي تشعر مع غزّة وأهلها، لكن النفوذ والعصابات التي تحكم العالم عبر أدوات متعدّدة من الإعلام إلى احتكار "مجلس الأمن"، وشلّ أيّ إمكانية لديه على اتخاذ قرارات فعّالة إلى الجامعات وغيرها من واجهات التأثير، تعطّل أيّ تضامن فعّال وتغيير حقيقي، وهكذا تبقى الصورة تتشكّلُ من الموت والدمار والنفاق الغربي الرسمي وغيره منقطع النظير.

هل ما يحدث في غزّة مقدّمة لتهجين وتطبيع العنف عالمياً بحيث يصبح اعتيادياً وينشغل الناس باحتياجات الحياة الغريزية، فلا يرتفع لهم صوت ولا تقوم لهم قائمة؟ هناك حروبٌ طاحنة الآن تدور رحاها، خصوصاً في العالم العربي، هذا العالم المكوّن من خريطة تشرذم ونفاق وضياع، مع جيوب على شكل دولٍ هادئة وممعنة في هدوئها أمام المجزرة والدمار.

كيفَ سيكون شكل الحرب العالمية الثالثة إذا ما قامت، لو سمح الله؟

إنّ تطبيع العنف وجعل صورته المرعبة شيئاً شائعاً ومألوفاً، وإطلاق العنان لأمثال القتلة الإسرائيليّين مثل سموتريتش وبن غفير وغالانت ونتنياهو وغيرهم لقيادة المجزرة؛ التي لا تهزّ شعرة في "البيت الأبيض" الذي يكذب بوتيرة منتظمة وبلا أي وازع أخلاقي، هو تقنين للعنف وشريعة أسوأ الحيوانات في الغابة. هو تحدٍّ كبير لإنسانيتنا المهلهلة التي لن يرقعها الزمن ولن تندمل جراحها، لأنّ هناك أرواحاً بشرية نشاهدها الآن مثلنا تصارع على حافة الحياة المسلوبة محتوى ومعنى في غزّة.

إنَّ ما نحياه اليوم لا يبشّر بخير. لا يُطمئنّ. إنّه يضعنا ولغتنا أمام استحقاقات نفسيّة وفكرية أبعد من أن تفهمها كليّاتنا العقلية والحسيّة. والخلاص الفردي هنا هو نوع من الترف والخواء والموت لمعنى أن يكون الإنسان إنساناً، فالنعامة مهما دسّت رأسها في الرمل، لا بدّ أن ترفعه حتى لا تصطدم بما قد يقضي عليها ويُحيلها أشلاء على الأرض، وأثراً تذروه الرياح.

ولكي لا أتقوقع في القتامة، على جاذبيّتها في الواقع المأزوم، لا بدّ من صمود الروح، لا بدّ من الإيمان أنّ الباطل الفجّ مهما تجبّر إلى زوال، لأنَّ أغلب البشر والبشرية مع التوازن ومع الاعتدال ومع العدل ومع الحياة للجميع. كلُ سويٍّ حرٍّ شريف يرفض أيديولوجية قتل الصهيونية للأطفال والإمعان في تعذيب الأبرياء وحرمانهم من الحياة الذين هم أهلٌ لها وأهلُها. يتطلّب هذا الوعي دقّاً على كلّ جدران الظلم، ونشاطاً حيثما أمكن في دهاليز العالم من أجل النجاة، والسلامة والكرامة للجميع.


* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن
 

موقف
التحديثات الحية

 

المساهمون