أصداءُ النفس

أصداءُ النفس

17 مارس 2024
عائلة فلسطينية تستعدّ للإفطار فوق أنقاض منزلها، دير البلح، 11 مارس 2024 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الكاتب الفلسطيني يصف معاناته اليومية والصراع الداخلي بين ممارسة حياته والشعور بالذنب تجاه ما يحدث في غزة، معبرًا عن تأثره الشديد بالأحداث المؤلمة.
- يستخدم الكتابة كوسيلة للتعبير عن مشاعره والتمسك بالهوية الفلسطينية، مستلهمًا من أعمال كتاب وشعراء فلسطينيين للتعبير عن أمله في التحرير والعودة.
- يختتم بالتعبير عن أمله في انتهاء الظلم في غزة ورغبته في العودة إلى بلاده كمصدر للحقيقة والهوية، مؤكدًا أن الحرية لفلسطين هي طريق تحريره من الألم.

للحرب وقعٌ لا يكذّبهُ القلب ولا تفرُّ منه الروح. منذ حملة الإبادة على غزّة وأنا أمرُّ بلحظات عصيبة كلّ يوم. وبما أنَّ هذه اللحظات لا تُقارَن مع مَن هُم تحت وطأة الموت والدمار في غزّة، أصمتُ وأحاول ممارسة المهمّات اليوميّة، من تدريس وإدارة وكتابة رسائل وغيرها، كما ينبغي.
 
لكنّ استفحال الأمر والشعور بكَمِّ وفداحة الظُّلم على الأهل في غزّة، والدهشة أنَّ البشرية الرسمية السياسية الغربية وأدواتها الإعلامية والاقتصادية وغيرها، ممكن أن تكونَ مُجرمة لهذا الحدّ يُرعب، يُرعب لدرجة أنّني أُعيد التساؤل في جدوى كلّ شيء أُؤمن به، من الإنسانية إلى الضمير إلى الثقة بالآخرين، إلى التعامل معهم، إلى التساؤل عن دور الفرد في مواجهة الظُّلم والقهر اللذين في النهاية يرتدّان على أهلي والأهل عموماً في غزّة. إن الوقوف عند عتبات النفس والتمحيص فيها أمام مرآة الخراب اليومي الذي يتعرّضُ له الأهل ليس بالأمر اليسير، إنّه نوعٌ من الغربلة الروحية لكلِّ ما كان، واستعدادٌ لما هو آتٍ، وما هو آتٍ غير واضح المعالِم، ويهدّدُ بالتيه النفسي والارتباك اللغوي.

بلادي القدر والهوية، والعالَم حبال مراوغة وفنتازيا المترفين

أضعُ نفسي أمام معطياتها فأجدها نفساً غير مطمئنّة كما عهدتها. بل هي متوتّرة، قلقة، تُطْحَنُ القريحةُ فيها بلا هوادة. إنِ ابتسمتُ، أو مارستُ الفكاهة، شعرتُ بالذنب، لأنَّ هناك مَن يموتون وهناك من يئنّون وهناك من يُدفنون أحياءً من بني جلدتي. وإن فكّرتُ في الواقعية والتقهقر والاستسلام للظُّلم بحُكم أنه لا حول لي ولا قوّة، نهرتني نفسي: عُدْ إلى ما بكَ من رُشدٍ وقاوم. وإن قلتُ أبتعدُ وأسلَمُ من ضربات القدر التي تأتي على هيئة أخبار مأساوية كلّ يوم، داهمني الخواء والفراغ. وهكذا أقول لنفسي فلتكن المواجهة، ليكن التفكير، ليكن القلق، ليكن التمترُس خلف اللغة أداة كما قُدِّرَ لها أن تكونَ للتعبير عن ثنايا النفس وهي تواجه مصير الميلاد كفلسطيني، والحياة كفلسطيني والمستقبل كفلسطيني. وهكذا يكونُ ما يكونُ.

أقتربُ من غنائيّة العذابات في شعر محمود درويش، وفزع الإنسانية وسليقة الضوء في عيونِ غسان كنفاني، وحزن سميح القاسم، وغربة الكلمات في شعر نجوان درويش، وبلاغة وجسارة إدوارد سعيد، ودقة وفصاحة غادة الكرمي، وجدّ وإبداع إبراهيم نصرالله، وكرامة المعنى في رفعت العرعير، وإيمان هبة أبو ندى، وغضب سوزان أبو الهوى، وغموض غسان زقطان، وهدير الشوارع والأسواق في صوتِ تميم البرغوثي، وصبر وشجاعة وائل الدحدوح، وهيبة العبارات وهالتها في خضمّ قعقعة المعارك في خطابات أبي عبيدة. أُلامسُ قلوبهم جميعاً، وأسيرُ بالدرب، وأؤبّنُ نفسي، فلسطيني معهم.

أتألّم كلّ يومٍ، وأقلقُ على فلسطين كلّ يوم، وأخافُ على أحبابي فيها، وأفكّرُ في اللاجئين القدامى واللاجئين الجُدُد الذين يقبعون في خيامٍ على حافة حياة مهلهلة وَرَثَّة إلى أبعد الحدود، وأكتبُ كفلسطيني.

العالَم لن يتحرّرَ مني، وأنا لم أتحرّر من العالم، ما لم تتحرّر بلادي. ينفطرُ القلبُ، تتألّمُ الروحُ، ترتعشُ الفرائص، تنقبضُ الأنفاس، تسيلُ الدموع، بلادي أنتِ الحقيقة والحقّ، والعالَم سرابٌ فتّاك، أنتِ القدر والهوية، والعالمُ حبالُ مراوغة، فنتازيا المترفين. 

وحين تتوقّفُ حملة الخراب والموت الإسرائيلية وحروب الغرب على بلادي، سأنظرُ للأمام قليلاً. سآوي إلى بحرٍ يعصمني من الغرق في تفاصيل المأساة التي كانت، والمأساة التي ستكون، حتى التحرير. سآوي إلى بحرٍ تنظّفُ أمواجهُ بعضها البعض. سأُطلق العنان لأنفاسٍ طويلة، أعودُ بها إلى آخر مساماتِ نفسي، وأمضي، أتذكّرُ بلادي، وأعانقها طويلاً إلى أن تعود.


* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن
 

موقف
التحديثات الحية

المساهمون