ياسر سليمان معالي.. اكتناهٌ لوظيفة اللغة الترميزية

ياسر سليمان معالي.. اكتناهٌ لوظيفة اللغة الترميزية

07 مايو 2024
ياسر سليمان معالي
+ الخط -
اظهر الملخص
- يستكشف ياسر سليمان في كتابه "اللغة العربية في ساحات الوغى" الأبعاد الرمزية والأيديولوجية للغة العربية في الصراعات السياسية والاجتماعية، مُبرزًا كيف تصبح اللغة أداة في النضال الثقافي والسياسي.
- يُقسم الكتاب إلى أربعة فصول تغطي جوانب مختلفة من اللغة العربية، من رمزيتها الاجتماعية إلى دورها في الإرهاب، مُشيرًا إلى دورها في تشكيل الهوية الثقافية والقومية والتحديات التي تواجهها.
- يُناقش الكتاب الأيديولوجيا اللغوية والقلق اللغوي، مُستعرضًا استخدام اللغة كأداة للسيطرة وتعبيرها عن القلق الثقافي والهوياتي، وكيف أصبحت العربية "لغة خوف" في الغرب بعد 11 سبتمبر، مؤكدًا على أهميتها في تشكيل الوعي السياسي والثقافي.

هل يُمكن أن نقرأ كتاباً في اللغة وعلومها انطلاقاً من مقدّمة راهنة ومأخوذة من صلب الواقع السياسي والاجتماعي الذي نعيشه؟ ربّما نمثّل لهذا بتجربتنا مع كلمات مثل "شهيد" و"فلسطين" و"غزّة" أو منشورات وكلمات تضامنية تم تقييدها على منصّات التواصل الاجتماعي. لكن لنأخذ مثالاً آخر كحادثة كمين العلَم المُفخَّخ التي ضجَّت بها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي مُؤخّراً؛ مستوطن ينزل من سيّارته ليقطع حقلاً في أرض فلسطينية، بعد أن استفزّه وجودُ علَم فلسطين فيه، وبكامل قوّته يركل العلَم فينفجر به.

هذه الواقعة في عناصرها المباشرة غير لُغوية، ولكنّها مُمهِّدٌ ممتاز لقراءة كتاب الباحث الفلسطيني ياسر سليمان معالي بعنوان "اللغة العربية في ساحات الوغى: دراسة في الأيديولوجيا والقلق والإرهاب"، الصادر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات". الكتاب منذ غلافه تتصدّره صورة للافتة صغيرة مكتوب عليها "باب العمود" بالعربية والإنكليزية والعِبرية، كما يضعنا عنوانه في قلب الموضوع مباشرة. الغلاف والعنوان عتبتَان تأسيسيّتان لتكون قراءةُ الكتاب قراءةً في الراهن، في الإبادة وفي مقاومتها، رغم أنه صدر في صيف العام الماضي وقبل بدء العُدوان.

ينطلق الباحث من هَمٍّ عامّ وهو تفسير الدور الترميزي للُّغة، على عكس انشغال الدَّرْس الألسني الحديث واقتصاره على الجوانب التواصلية منها. فالاهتمام بالدور الترميزي يعرض لنا "مكانة الجماعة اللغوية مقابل غيرها من الجماعات". على الرغم من ذلك، فـ"إنه (الدور الترميزي) لا يطفو على السطح... بل يجري تداوله روتينيّاً كما يتداول الناس العملة الورقيّة... أو كما يسير المواطن تحت أعلام الوطن وهي تُرفرف فوق رأسه من دون الانتباه إليها أو إلى معانيها في الحياة العادية". وهُنا يُمكن لنا أن نُضيف أنه في لحظات المقاومة والمواجهة الكُبرى تظهر قيمة اللغة الرمزية، حيث تُصبح مثار انتباه، وتتجاوز كينونتها لتصير سلاحاً مُتوجِّهاً ضدّ الاستعمار ومستوطنيه.

تظهر قيمة اللغة الترميزية في لحظة المقاومة الكُبرى 

ينقسم الكتاب إلى أربعة فصول: "اللغة العربية من منظور اجتماعي: دراسة في الرمز"، و"اللغة العربية والأيديولوجيا"، و"اللغة العربية والقلق اللغوي"، و"اللغة العربية والإرهاب"، وهي بعمومها تعتني برمزية اللّغة من منظور سيميائي، تتحوّل معه الضادّ إلى إشارة لا يُكتفى بدراستها داخل نطاقها البنيوي، بل ننتقل إلى مجال آخر أرحب بَعد- لغوي وتاريخي. 

اللغة هُنا جزءٌ "مُتشعبِك" (منحوتة يستخدمها الكاتب وتعني مُتشعّب ومُتشابك) بمصفوفة أكبر تشمل الشعر والنثر والصورة والكاريكاتير والرسالة و"التي شيرتات" واللّافتات والشعارات البصرية والأعلام والهتافات، وسوى ذلك ممّا يستدعي في وظيفته السياسية والاجتماعية إذكاءَ الدور الترميزي للّغة في أوقات الصراع وتعدُّد جبهاته، ومن هنا جاءت استعارة "ساحات الوغى". وضمن هذا السياق، يؤكّد الباحث "أنّ الدرس اللغوي العربي يُمكن أن يخطّ لنفسه مسارات خاصة به تُثري فهمنا للعربية، بخصوصيتها الثقافية، في الوقت نفسه الذي يستطيع فيه أن يُضيف إلى كونيّة اللسانيات المُبتغاة من خلال المساءلة المنهجية والمعرفية المنضبطة".

ويذهب صاحب "حروب الكلمات: اللغة العربية والصراع في الشرق الأوسط" (صدر بالإنكليزية، 2004)، إلى أنّ التجلّيات اللغوية لاستعمار فلسطين بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر، حيث استدعت الحركة الصهيونية إحياء العِبرية القديمة خدمةً لمشروعها الاستيطاني "إخراجها من عالَم اللاهوت إلى الناسوت"، في الوقت الذي كانت فيه العربية تعيش حالة "آمنة"، وهذا ما انقلب بعد نكبة 1948، حتى وصل الحال مع قانون الجنسية الذي أُقرّ عام 2018 (للقانون صفة دستورية فـ"إسرائيل" لا تملك دستوراً بالمعنى القانوني)، وقد نصّت المادة الرابعة من هذا القانون على أنّ العبرية هي لغة الدولة الرسمية، وقد حاول المدافعون عن هذا القانون تبريره بادّعاء أنّ حاجة الأقلّية العربية إلى لُغتها خارج الوسط العربي أقلّ بكثير ممّا كانت عليه في العقود الأولى لإنشاء الكيان الاستعماري.

الصورة
اللغة العربية - القسم الثقافي

كذلك يتنبّه الكتاب إلى مفهوم الأيديولوجيا اللغوية (الفصل الثاني)، ويُثبته في العنوان، وينظر إليه من خلال تعارُضاته مع نتائج الدرس الألسني الحديث، كونها (الأيديولوجيا اللغوية) تحدُّ من فاعليّة تلك النتائج العِلمية، وبالتالي لم تحظَ باهتمام كبير غربيّاً (وكذلك عربياً نتيجة طغيان التبعيّة). بل إنّ ياسر سليمان معالي يتبنّى النظرة البودريوية (نسبةً إلى عالِم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو) التي ترى أن قوّة الترميز ليست مُركّباً بنيوياً بل نتاجٌ إنساني سياقي يتشكّل بفعل التاريخ وعلم الاجتماع. وهذا يقود إلى مواجهة أُخرى للأيديولوجيا اللغوية، وهي مُوجَّهة هذه المرّة إلى الموقف من العامّيات التي يرضعها الأطفال مع حليب أمّهاتهم عكس الفصحى التي تُكتسب في المدارس. لكنّ الأيديولوجيا اللغوية العربية تنظر إلى العامّيات بوصفها فساداً وتحريفاً، فضلاً عن أنها تعتقد بوجود "ازدواجية لغوية" (Diglossia).

أمّا مفهوم القلق اللغوي فيتناوله الباحث في الفصل الثالث، وفي هذا السياق تبرز عدّة أمثلة منها الرمزي ومنها الأداتي، لكن ربّما يكون أبرزُها تائيّة حافظ إبراهيم الشهيرة، والتي تحوّلت إلى علامة فارقة في بابها: "رجعتُ لنفسي فاتّهمتُ حصاتي/ وناديتُ قومي فاحتسبتُ حياتي/ أنا البحر في أحشائه الدرُّ كامن/ فهل سألوا الغوّاص عن صدفاتي؟". ورغم أنّ الباحث يُفرد تحليلاً واسعاً لهذه القصيدة، ويربطها بخلفيّاتها التي شكّلتها في حاضنة الأيديولوجيا اللغوية الفصيحة، نجده أيضاً يشفع أمثلته بدرس مُقارن وبأسئلة من قبيل: ماذا عن مكانة الإسبانية في المجتمع الأميركي المعاصر؟ (وظهور ما يُعرَف بـSpanglish)، وماذا عن قلق الفرنسية من الإنكليزية، ألا يُعدّ هذا القلق جزءاً من ظاهرة عالمية؟

دراسة تجمع بين أدوات التحليل الاجتماعي والفهم التاريخي 

يُموضع ياسر سليمان معالي القلق اللغوي العربي في مكانة أعلى من نظيره الموجود في الإنكليزية، أو في الفرنسية، التي تُراوح بين المنزلتين، فالقلق اللغوي هو قلَق مجتمعٍ قبل أن يكون قلَق لُغة. كما لا يفصله عن القلق الناجم من مزاحمة اللغات الأجنبية للوطنية، هذه الحالة أيضاً فيها ما فيها من الكرب والاضطراب الناجم عن موضوع يمسّ الهوية مباشرة، ويُمثّل بمنع زعماء الحركة الصهيونية الاقتراضَ من العربية مطلع القرن العشرين، رغم أن بعضهم دعا إلى ذلك بحُكم أنّ الضادّ لغة ساميّة وحفظت تاريخياً مفردات عِبرية.

إلّا أن ما يهمّنا، كما ينبّه الباحث، أنّ المبالغة في تقييمات القلق اللغوي العربي لا يبعد عن كونه تكريساً لمنطق الضعف والتبعيّة، فها نحن اليوم بعد قرابة مئة وخمسين سنة من "النعوة" التي أطلقها حافظ إبراهيم، نقف أمام لغتنا لنكتنه ما فيها ونتقاسم همومها.

في الفصل الرابع يجول الكتاب بمادّته في المطارات ووسائل النقل والجامعات والمَرافق العامّة في الغرب، مُستخلِصاً النظرة إلى اللغة العربية بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، حين تحوَّلت الضادّ، وبفعل تحشيد إعلامي غربي (كالذي يُغطّي على الإبادة الصهيونية اليوم، أو مؤسِّس له) إلى "لغة خوف"، وبات يتمّ التعامل معها على المستوى القومي الأميركي وفقاً لـ"خطّة أَمنِيّة". لكن قبل ذلك الحدث لم تكُن في نظَر الناشرين والمشتغلين سوى أنّها لغة إشكالية، في هذا السياق يُمثّل لعرض إدوارد سعيد على أحد الناشرين ترجمة نجيب محفوظ عام 1980 فما كان من الناشر إلّا أن امتنع قائلاً: (Arabic was a Controversial language).

يُركِّز الفصل الرابع والأخير من الكتاب على العُشْرية الأولى من الألفيّة الثالثة، حين تلا الحادي عشر من سبتمر غزوُ العراق والصدام المباشر للآلة العسكرية الإمبريالية بالمنطقة العربية، وبدأت تظهر صُور التعذيب في سجن "أبو غريب"، وبات كتاب "العقل العربي" للأنثربولوجي الصهيوني رفائيل باتاي بمُخرجاته وتوصياته العنصرية هو المَرجع في التعامل مع اللغة العربية في وسائل الإعلام حينها. 

ومن هذه "النظرة الأمنيّة" التي وصّفها ياسر سليمان معالي في كتابه، يُمكننا أن نعود إلى الراهن في الجامعات الأميركية اليوم، حيث ما زال التعامل الأمني قائماً من قبل المؤسسة، لكن الحشد الطلّابي المناصر للقضية الفلسطينية والمُطالب بوقف الإبادة فوراً على العكس من ذلك. نحن أمام مشهد سيميائي تختلط فيه الشعارات بالصورة واللغة، ويُمكن أن نُطبّق عليه الأدوات التي استخدمها الباحث في استقراء الدور الترميزي للضادّ.

بين مشهد مقتضب لكمين العَلم، المثال الذي اخترناه لقراءة الكتاب، ومشهد طلبة الجامعات الأميركية المحتجّين، الذي يمتدّ ويتحرّك بحيوية داخل الجامعات وخارجها، سيُقال الكثير عن "ساحات الوغى" هذه، وفي القلب منها اللغة العربية.



بطاقة

أستاذ فخري في الدراسات العربية المعاصرة في "جامعة كامبردج"، وأستاذ زميل في مركز الدراسات الإسلامية في الجامعة نفسها، ورئيس مجلس أمناء "الجائزة العالمية للرواية العربية" (البوكر العربية).  أستاذٌ سابق في "جامعة إدنبرة" و"سانت أندروز"، والرئيس المؤسّس لـ"معهد الدوحة للدراسات العليا" في الدوحة، ولمركز الدراسات الإسلامية في "كامبردج". له العديد من الدراسات المنفردة باللغة الإنكليزية، منها: "التراث النحوي العربي: دراسة في التعليل" (1999)، و"اللغة العربية والهوية القومية: دراسة في الأيديولوجيا (2003)"، و"حروب الكلمات: اللغة والصراع في الشرق الأوسط" (2004)، و"اللغة والذات والهوية: دراسة في الصراع والإزاحة (2011)"، و"العربية في ساحات الصراع: الأيديولوجيا اللغوية والسياسة الثقافية" (2013). حرّر سبعة كتب بالإنكليزية تناولت مواضيع مختلفة في الألسنية ودور الأدب في صناعة الهوية، وكتاباً حول الهوية الفلسطينية في الشتات عنوانه "أن تكون فلسطينيّاً: تأمّلات شخصية في الهوية الشتاتية"، وقد فاز بـ"جائزة الكتاب الفلسطيني الناطق بالإنكليزية" في فرع السرد (2016).
 

المساهمون