محمد م. الأرناؤوط: سامي فراشري.. العلمانية والقومية في سياق سياسي

محمد م. الأرناؤوط: سامي فراشري.. العلمانية والقومية والتعدُّد في سياق عثماني

11 ابريل 2021
(رسم لـ شمس الدين سامي فراشري في تيرانا)
+ الخط -

لا يزال الجدل مستمرّاً ومتجدِّداً في البلاد العربية حول العلمانية كمفهوم، وحول إمكانية تطبيقها في مجتمعاتنا. وقد تَعزّز هذا الجدل مع دخول الأحزاب الإسلامية بشكل أكبر الحلبةَ السياسية بعد "الربيع العربي"، ونبْشِها في التراث لإعادة تَموضُعها من خلال طرحِ مفاهيم قديمة رفضَتها سابقاً، وتبنَّتها حديثاً؛ مثل مفهوم الدولة المدنية، ومراجعاتها حول الديمقراطية وأنظمة الحكم. وفي المقابل، لا تزالُ الأطراف العلمانية، بصقورها وحمائمها، تُصرُّ على أنّ العلمانية، "شاملةً" كانت أو "جزئيّةً"، مظلّةٌ تُشكّل ضماناً للأقليات العرقية والدينية، وطريقاً باتجاه واحد نحو التقدُّم المنشود ونزْع عباءة التراث وغباره.

دراسةُ الأعمال الكلاسيكية وأثرِها على الحاضرِ خيارٌ يراه كثير من الباحثين والأكاديميّين أفضل من القطع مع التراث والانفصال عنه. يفتح هذا النبش التاريخي البابَ على مصراعيه لانتقاء مفكّرِين قد يكونون مجهولين أو منسيّين على الصعيد العربي، لمحاولة فحْص إجاباتهم عن الأوضاع القلقة التي كانت تعيشها مجتمعاتهم، وحلولهم المقترَحة للمشاكل التي تشبه مشاكلَنا اليوم، لنتفاجأَ باقتراحات غُيّبَت سهواً أحياناً وعمداً في أحيان أُخرى.

"شمس الدين سامي فراشري (1850 - 1904): جدلُ العلمانية والدين والتعدّدية القومية في إطار الدولة العثمانية" هو عنوان حلقة نقاشية أقامها، عبر تطبيق "زووم"، "المعهدُ الفرنسي للشرق الأدنى"، بالتعاون مع "المعهد الملكي للدراسات الدينية" في عمّان و"معهد الدراسات الشرقية" في كوسوفو في السابع من نيسان/ إبريل الجاري، وقدّمها الكاتب والأكاديمي والمؤرخ الكوسوفي السوري محمد موفق الأرناؤوط، وأدارها الأكاديميان عامر الحافي من "المعهد الملكي للدراسات الدينية"، وعبد الحميد الكيالي من "المعهد الفرنسي للشرق الأدنى".

دعا إلى دولة دستورية قائمة على التعدّدية والمساواة

تحدّث الأرناؤوط، المتخصّص في الأدب المقارن وفي التاريخ الحديث، وعضوُ أكاديمية العلوم في كوسوفو وأكاديمية العلوم في البوسنة، عن سامي فراشري، الفيلسوف والكاتب المسرحي والروائي العثماني الموسوعي، ورائد القومية الألبانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأعماله الأدبية التي شَمَلتْ أوّلَ رواية في الأدب التركي، ومسرحياتِه التي لاقَتْ رواجاً كبيراً، بعد أن أدرك إمكانية بثّ أفكاره من خلال الروايات والمسرحيات والمقالات الصحافية.

بدأ الأرناؤوط الجلسة بالتنويه بفكرة المئويات وأهميتها في الاحتفاء بإنتاج الكتّاب الراحلين، والفسحة التي تمنحها لتقييم أعمالهم ودراسة مدى راهنيّتِها وأهميّتِها في وقتِنا الحاضر. ثمّ حدّد الفضاء الفسيح الذي كان شمس الدين سامي فراشري يتحرّك فيه، والذي شَمَلَ الفضاء العثماني والتركي والألباني والعربي والكردي وغيرها من المكوّناتِ التي شَكّلتْ الإمبراطورية العثمانية. وتوسّع الأرناؤوط في مشروع فراشري السياسي، الذي يقوم ويشدد على الدولة الدستورية القائمة على التعدُّدية والمساواة بين الشعوب، مشيراً إلى ميل الأخير وتحبيذه للعلمانية "الناعمة" وفق النموذج الأنكلوسكسوني.

الصورة
شمس الدين سامي فراشري - القسم الثقافي
(شمس الدين سامي فراشري سنة 1896)

أشار المتحدّث أيضاً إلى تأثيرات أصول فراشري البكتاشية، التي جعلته يُفضِّلُ النموذج الأقرب للعلمانية وفق النموذج الأتاتوركي، بالإضافة إلى ولادته في جنوب ألبانيا في منطقة يغلب عليها التنوُّع الإثني والقومي والديني، وكيف تعلّم وأجاد خلال فترة نشاطه قرابة عشر لغات، أبرزها اليونانية القديمة والحديثة والإيطالية والفرنسية والعربية والتركية والفارسية.

اشتمل نتاج شمس الدين سامي فراشري، الغزيرُ للغاية، على حقول متنوّعة بين المسرح والرواية والمقالة والقواميس والفهارس، وقام مشروعه الفكري على دعامتين أساسيتين: الاهتمام باللغة وبإحيائها وإصلاحها، لكونه يؤمِنُ بأن اللغة هي المُحدِّدُ الحقيقي للجماعة، وأنّ أيّ جماعة ينبغي أن تتمتّع بالحق في التعليم والكتابة والنشر بلغتها، ليتكوّنَ من خلال هذه اللغة وعيٌ ملائمٌ للعصر.

بثّ أفكاره السياسية في الأدب ليُحقِّقَ لها الانتشار

أما الدّعامة الثانية، فهي مفهومه المغاير للدولة العثمانية، التي رآها دولةً دستوريةً تقومُ على التنوّعِ والمساواة بين شعوبها، حيثُ دفعَته خِشيَتُه على هذه الدولة إلى الترويج لهذا المفهوم، عسى أن تتبنّاهُ وتحجز لنفسها مقعداً بين الدول المتقدّمة، لأنه رأى أنَّ الحكم المطلَق هو سبب تَخَلُّفِ هذه الدولة وأي دولة كانت.

لذلك اقترح خطَّين للدفاع قامَ أوّلُهما على السؤال الآتي: ماذا لو تحوّلَت الدولة العثمانية إلى دولة دستورية؟ سنتفادى عندها مفهوم "الترميم" و"الإصلاح" للوصول إلى دولةٍ متقدّمةٍ ترعى حقوق رعاياها، وتصبحُ في مصافِّ الدولِ المتقدمة. أما خطُّ الدفاع الثاني، فكان بعد توقُّعِ الأسوأ، أي ألّا تقبل الإمبراطورية التحوّلَ إلى دولةٍ دستورية، وعندها لا بدّ من تمكينِ الجماعات من هويّاتها وثقافاتها وقدراتها الذاتية لإدارة نفسها من خلال كيانات منفصلة (أوتونومية).

توصّلَ فراشري بعدها إلى تلك الفكرة الرائدة التي تقول بالوطن الكبير والوطن الصغير والجمع بينهما ضمن الشرط الدستوري. ولا بد للقيام بذلك في وطنه الصغير ألبانيا من إصلاح اللغة الألبانية، والسعي لاكتساب ألبانيا الحكم الذاتي في حال انهيار الوطن الكبير. لقد أكّدَ في أعماله الأدبية هذه الأفكار، وبَثَّها في سطورِها لكي يُحقِّقَ لها الانتشارَ المطلوبَ دون الاصطدام المباشرِ بالنُّخبةِ الحاكمة.

الصورة
محمد م. الأرناؤوط - القسم الثقافي
(محمد م. الأرناؤوط)

ختم الأرناؤوط الندوة بالإسهاماتِ الرياديّة والأصيلة التي قدّمها شمس الدين سامي فراشري، والتي لخّصَها في أنّه أولُ من ترجَمَ رواية "البؤساء" إلى اللغة التركية، وأنه صاحب أول روايةٍ في الأدب التركي، وأوّلُ من اشتقّ مصطلح "الوطنيّة" من كلمةِ الوطنِ باللغة العربية، وأوّلُ من أشار في مسرحيّته إلى حقوق المرأة كمصطلح، وأنه بالنسبة إلى الألبانيين مُؤدلِجُ القوميّة الألبانيّة، وبالنسبة إلى الأتراك صاحبُ اقتراح استبدال الحرف العربي في كتابة اللغة التركية بالحرف اللاتيني.

كانت هذه الندوةَ الأولى في مجموعة ندوات تحمل عنوان "الأديان والمجتمعات: وجهات نظر مقارنة". وتهدف، وفقاً لـ"المعهد الفرنسي للشرق الأدنى"، إلى دراسة الخطابات السياسية اعتماداً على التعدُّدية الدينية والاجتماعية في الشرق الأوسط وأوروبا في سياق تاريخي. وتكتشفُ هذه الندوات التي تتعاون فيها المعاهد الثلاثة أعمال عدد من مفكري الإسلام في الفترة الكلاسيكية مثل ابن ميمون وابن تيمية وشمس الدين سامي فراشري وغيرهم.

وتستهدفُ هذه المقاربة وفقاً لعبد الحميد الكيالي تحقيق هدفين أساسيين، أولهما: "محاولة بناء، نقض، و/ أو إعادة بناء سِيَر المفكّرين محلّ الدراسة لتحييدِ أثرِ الأيديولوجيا، الأسطورة، والذاكرة الجمعيّة عند تفسير الماضي". أما الهدف الثاني والأهم كما يتابع، فهو "استكشاف النماذج المعاصرة في إعادة قراءة هذا الإرث الفكري، من قبيل الإسقاط، القطع مع الماضي أو تجاهله، الانتقاء، التعميم، التبسيط، الإخراج من السياق، الأسطَرَة، تشريع الصراع أو العداوة...".

المساهمون