وداعاً مانغاليش دبرال: المبادئ الأساسية لأن تكون بشراً

وداعاً مانغاليش دبرال: المبادئ الأساسية لأن تكون بشراً

14 ديسمبر 2020
(مانغاليش دبرال، 1948 - 2020)
+ الخط -

فقدت الهند، قبل أيام، واحداً من أبرز شعرائها ومثّقفيها التقدميّين، مانغاليش دبرال (16 أيار/ مايو 1948 - 9 كانون الأول/ ديسمبر 2020)؛ حيث رحل الأربعاء الماضي بسكتة قلبية أثناء وجوده في مستشفى "معهد العلوم الطبية" في نيودلهي للعلاج من فيروس كورونا الذي حصد هذه السنة الكثير من الأرواح المبدعة.

صديقُه منذ أكثر من أربعة عقود، الشاعر والناشر أسد زيدي، وصف الخسارة بقوله: "تمكّن بأسلوبه البسيط، من ضخّ السحر في الشعر الهندي الذي طوّر لغته إلى حدّ كبير. إنها خسارة كبيرة للأدب الهندي، والتي تُعدّ الخسارة الأكبر برأيي بعد وفاة الشاعر راغوفير ساهاي".

ينتمي دبرال إلى ذلك النوع من الأدباء الذي يقارب المخلوقات من زاوية العطف والحب؛ الجانب الذي يميّز إنتاج الموهبة الأصيلة عن إنتاج الموهبة المتعالية. لا يكتبُ دبرال أدباً تحليلياً متجلّدَ المشاعر، بل يغمُر نفسَه بأدقّ تفاصيل المشاعر البشرية الخام ويعبّرُ عنها ببساطة أسلوبية شديدة.

مانغاليش دبرال شاعرٌ يحب الإنسان، ذلك المخلوق البائس الذي يعيش في هذه "الماتريكس" (الشبكة) دون أن يدرك جدواها، حب ينتمي إلى مرحلة باتت قديمة اليوم في عالم الأدب الذي يتحدّث عن مشاعر المسامير والأخشاب والآلات والجحور.

مريضُ قلبٍ أمام الكمبيوتر يفكّر: كيف يمكنني علاج البلاد؟ 

يقول في إحدى مقالاته: "ما زلتُ أعتقد أنَّ الماركسية واحدة من أكثر الأيديولوجيات إنسانيّةً بعد البوذيّة، ويمكن أن نطلق على كليهما اسم فلسفة الحزن البشري"، هذا هو دبرال، الماركسي الذي جاء من قريته الجبليّة النائية في إقليم أوتاراخاند، إلى دلهي ففهمها وأحبّها، وكتب عنها ككل المهاجرين الداخليّين في الستينيات من القرن الماضي، كما نرى في قصيدته "دلهي": "أرى أشخاصاً غريبين في هذه المدينة. تُشبه وجوهُهم وجوهَ أعدائي. يتبخترون في سيّاراتهم الفاخرة باتجاه مطار أنديرا غاندي الدولي".

في الوقت نفسه، أحبّ دبرال أهل دلهي وحزن عليهم وتعاطف مع مصائبهم التي تبدو صغيرة في عينَي هذا العصر الجائر. يقول في القصيدة نفسها: "مريضُ قلبٍ أمام الكومبيوتر يفكّر: كيف يمكنني علاج البلاد؟ رجلٌ شجاع يبكي في القسم الخلفي لمركز تجاري فاخر، أصابه داء الشجاعة".

الصورة
غلاف الكتاب

قد تُحيلُنا هندُ دبرال، أكثر ما تُحيلُنا، إلى مصر، من حيث هي (والحديث هنا عن مصر) أمّة ضخمة تحاول أن تفتخر بالفراعنة وتدّعي اليونانية وتعيش يوميات تتطابق مع اليوميات الهندية أو الباكستانية.

وصف دبرال بلاده المترامية الأطراف بأنّها: "بلادٌ تطفو على أعمدة من الراجا"، وهي القطعة الموسيقية الشعبية التي تتألّف من عدة نغمات تتكرّر تباعاً، ويشتق اسم كلّ منها من الحالة النفسية التي تريد الإيحاء بها، والتي تذهب الأساطير الهندية إلى أنَّ لها تأثيراً وقوّةً روحانية. ولعلّ محاولات وصف محيط هادر بالبشر والمشاعر والآلام مثل الهند، لن تكون دقيقة أكثر من ذلك.

رجلٌ قصير بنظّارات سميكة كان يحمل العالم كلّه بداخله

كان مانغاليش دبرال يتغذّى على غلالِ طفولته يلتقُطُها من خُرجِهِ حبّة حبّة، ليخبزَ تجربتَهُ الإنسانية والشعرية نصوصاً كونيّة قادرة على لمس شغاف القلب عند أي قارئ في الكرة الأرضية تصادَفَ أنَّ له أباً وأمّاً وجدّاً وجدّة. كتب، وكأنه يكتب عن آبائنا جميعاً، عن صورة والده المعلّقة على الحائط:
"لا يَسعُلُ أبي في الصورة
ولا يتوتّر
لا يشتكي من وجع يديه ورجليه
لا ينحني ولا يساوم
..
وقف أبي يوماً أمام صورته
وقالَ
مثل معلِّمٍ يشرح الخريطة لتلاميذه:
لا أُشبه صورتي".

الصورة
(مانغاليش دبرال مع الشاعر أسد زيدي)
(مانغاليش دبرال مع الشاعر أسد زيدي)

وكتب عن قَلَقِ أمّه الذي يماثل قلق أمّهاتنا جميعاً، وخجلهنّ من التقاط الصور:
"كلّما حانت الفرصة لالتقاط صورة
تبحث أُمّي عن شيء مفقود
أو تذهب لجلب الحطب أو العشب أو الماء".
وعن أمّه أيضاً كتب في قصيدة أُخرى:
"لطالما دلّتني أُمّي أينَ خلعتُ ثيابي
أين تركتُ أشيائي أو أخفيتُها.
ولطالما وجدتُها وغمرتني السعادة".

جدُّه أيضاً كان حاضراً في شعره "مثل سحابة مثقلة بالماء"، والذي كان باحثاً في الأيورفيدا والسنسكريتيّة أيضاً وجامعاً للمصطلحات الشعرية والعبارات المحكيّة:
"قالت أُمّي
عندما تغطّون في النوم محاطين
بمخلوقات الليل الغريبة
يبقى جدّكم يقظاً في الصورة ليحرسكم".

يقارب المخلوقات جميعها من زاوية العطف والحب

يتحدّث دبرال في مقالته "صفحة مفتوحة على الصدفة" عن الخلاص الذي يمثّله الشعر، وعن إيمانه بالدور الحقيقي الملموس للشعر في نهاية الأمر، ويُعطي الدليل على هذا الأثر في حادثة فتاة غوجارات التي كانت على وشك الانتحار، واستوقفتها للحظة في كتاب النصوص الأدبية للصف العاشر أمامها قصيدته "فانوس على الجبل"، فحدا بها فضولها لاستطلاع هذا الفانوس، وأبقتْ على حياتها. هل كان يثبت لنفسه جدوى كلّ ما يقوم به؟ هل منع الشعر مأساة إنسانية؟ هكذا تمنّى على الأرجح، وهذا ما نتمنّاه جميعاً.

نال دبرال عام 2000 جائزة "ساهيتا أكاديمي"، التي تمنحها "الأكاديمية القومية للآداب" في الهند، عن مجموعته الشعرية "ما نراه" Ham Jo Dekhte Hain، والتي تخلّى عنها بعد انتقاداته العلنية للحكومة الحالية في عام 2015 احتجاجاً على مناخ التعصُّب المتنامي في البلاد والذي ساهمت الحكومة بجزء كبير منه.

الصورة
غلاف الكتاب

استوحى دبرال قصيدته "تاناشاهي" (2014) من شخصية رئيس الورزاء ناريندرا مودي ومن خطبه، واستوحى أيضاً ملابسه في قصيدة "حكاية شعبية"، وهي قصيدةٌ تتحدّثُ عن ملكٍ أنيقٍ يكرهُ الغبار، مهووس بملابسه التي يغيّرها يومياً عدّة مرّات. تدخلُ ملابسُ هذا الملك التاريخ في نهاية الأمر ليُعرفَ عصرُه بعصرِ الملابس المتّسخة.

عشرات الشهادات الحارّة من أبرز شعراء وكتّاب الهند ومثقفيها قيلت في رحيل الشاعر، ولعل ما كتبته الصحافية والكاتبة ميرنال باندي يلخص الجانب الإنساني الذي لطالما أضاءَ شعره: "كان رجلاً قصير القامة بنظّارات سميكة، ولكنه كان يحمل العالم كلّه بداخله. يمثل دبرال أحد أكثر العقول الثاقبة في اللغة الهندية، إنسان لا يمكن أن تتزعزع معتقداته، وكاتب صريح في كتاباته كلّ الصراحة، ولكنه كان خجولاً للغاية عندما تقابله شخصياً. لقد بقي دبرال صارماً للغاية في ما يتعلّق بالحفاظ على المبادئ الأساسية لكيف تكون بشراً حقيقياً".


* باحث ومترجم من سورية

 

موقف
التحديثات الحية

المساهمون