للأدب كلمته أيضاً

للأدب كلمته أيضاً

11 يوليو 2021
وليد المصري/ سورية (جزء من لوحة)
+ الخط -

لا تخضع السياسة للأخلاق، وإنّما لها لغتها واعتباراتها التي تتوافق مع المنتصر. ولا يجد المهزومون في عالم السياسة ما يحميهم من المَهانة ومن مرارة الهزيمة، فالسياسة رَهنُ القوي، وأخلاقها هي أخلاق المنتصر. يفرض القويُّ أفكاره ومعتقداته على الآخرين. وفي الحروب أكثر ما يتجلّى مبدأ القوي الذي يحكم الضعيف. كما أنّ السياسي المنتصر يتحدّث بعلياء ومباهاة، وبصلفِ المتأكّد من قدرته على فرضِ وجهة نظرهِ حتى على التاريخ، باعتبار أنّ كلّ حدثٍ في الحاضر سيصبحُ تاريخاً، ومعروف أنّ التاريخ يصنعه المنتصر، فهو من يفرض روايتهُ على الحاضر. لولا أنّ الأدب يجيء من زاوية معتمة، من صدور المهزومين ومن ابتهالاتهم، ليقول كلمته أيضاً.

تتلخّص الحروب والمعارك الكبرى التي شهدتها البشرية على مرّ الأزمنة في حكاية بسيطة عن بدء الحرب وانتهائها، وعن الأطراف التي تصارعت فيها، وعن نتائجها. إذاً، إنّ محدّدات قليلة قادرة على تحديد أية حرب من وجهة نظر سياسية. أمّا ما يحدث من نضالاتِ البشر، من عذاباتهم وآمالهم المحطَّمة، من خسارتهم لأحباء، ومن اختبارهم شتى أنواع العواطف، التي تمثّل الحرب نبعاً لا ينضب منها، فإنّ ذلك مَجال الأدب وشتّى أنواع الفنون.

تتحرّك الفنون في الفضاءات التي لا تكترث بها السياسة كثيراً. وفي هذا الحيّز الذي تتحرّك فيهِ الفنون، فإنّ الأدب يمارسُ أبلغ سياساتهِ؛ في أن ينتصر للمهزومين، ويجعلَ الهامشَ متناً. قد لا يعني القائد أنّه فقد آلاف جنودهِ، لا يعنيه أنّه قد دَمّرَ المدن، وشرّد الملايين، طالما أنّه انتصر. لكن بالنسبة إلى الأدب، فإنّ كلّ حياةٍ من حياة أولئك المهدورين تحمل حكاية خاصّة، لأنّ الأدب، بصورةٍ ما، هو وسيلة البشر في أن يصونوا حكاياتهم، في حين السياسة هي وسيلتهم في استخدام تلك الحكايات. بذلك فإنّ السياسة والأدب، لا يلتقيان إلا في شروطٍ معقّدة. عندما يقرأ السياسي حكاية الحرب فإنّه يقرأها وفقاً للطريقة التي سيستخدمها بها، إنّه يُعنى بخلاصتها فقط. لكن أمام الحكاية ذاتها، فإنّ الروائي يدقّقُ في التفاصيل، ويتحرّى فضاء الحكاية مثل من يُعاين جريمة.

الأدب، بصورةٍ ما، هو وسيلة البشر في أن يصونوا حكاياتهم

مفارقاتٌ عديدة تُبعدُ عالمَي السياسة والأدب بعضهما عن بعض، وفي الوقت ذاتهِ تجعل منهما عالمين مترابطين، وقد دَرَجَ لدى السياسي، لكونه يعرف أنّ الأدب تاريخٌ آخر، غير رسمي، ولا يخضع لسلطتهِ، أن يهتم بصورتهِ في الأدب، لأنّه خارج سيطرتهِ. لذلك نجد السجال أزلياً حيال العلاقة التي تجمع الأدب بالسياسة، فهما يضيئان الفضاء ذاته، لكن على وتيرة مختلفة. عندما تغيب السياسة، يعيدُ الأدب تعريف الواقع أمام الناس، وفي التاريخ أيضاً، وهنا تكمن خطورته على مقولات المنتصر التي يريدها حتمية. وجود الأدب الذي يقدم روايةً تناقض رواية السلطة التي يمثلها المنتصر، يجعل من روايته رواية ناقصة، ويمكن دحضها بسهولة. فالأدب يعمل على سوية مختلقة من عمل السياسة، إنّه أكثر عمقاً وأطول أمداً، وأكثراً تعبيراً عمّا يصنع إرث البشر.

عندما يقرأ السياسي خبر نشوء نزاعٍ بين دولتين، أو نشوب ثورةٍ في بلدهِ، يُسارع في إجراء حساباتهِ. فيما يقرأ الأديب بتمهّل، ويتأمّل ويفكّر. كلاهما يفكّر في مصير الإنسان، لكن كلّ من زاويتهِ، إذ يعمل السياسي في الحالات المُثلى على تحسين شروط الواقع المسؤول عنهُ، غاضّاً الطرف عن وسائلهِ في ذلك، فإنّ الأديب يفكّر في مصير الإنسان الفرد، الذي يتكوّن في صراعات ترسم مصير الجماعة. ومهما بدا عالما الأدب والسياسة متنافرين، فهما مجرّد أدوات يستخدمها البشر للسيطرة على الواقع أو لإعادة تأهيلهِ على نحو أكثر إنسانيّة.


* كاتب من سورية

موقف
التحديثات الحية

المساهمون