في إطار الحكاية

في إطار الحكاية

03 يوليو 2021
جزء من "تركيب" لـ علي مقوّص
+ الخط -

في كتابهِ "تأملات في السرد الروائي" يتحدث أمبرتو إيكو (1932-2016) عمّا يدعوه "الوظيفة الاستشفائية للأدب"؛ فالأدب بحسب إيكو؛ يعطي شكلاً للفوضى التي تُميّز التجربة. بهذا التعقيب المقتضب يشرح إيكو الميزة الفضلى التي تجعل من قراءة الأدب محاولة للشفاء. 

عدا عن أنّ البشر يعيشون، فهم لا يتوقّفون كثيراً كي يتأملوا تجاربهم في العيش. يحبّون ويُخانون ويعاودون الحبّ، لتتراكم المشاعر وتُبنى الآثار في نفوسهم أثراً فوق آخر. يؤمنون بأوطانٍ ويبتعدون عن أوطان، يبنون بيوتاً ويرحلون عنها، يعيشون في بيوتٍ، بما للبيتِ من فضاءٍ خاص وحميم، ومن ثمّ يفقدون تلك البيوت، إما تدميراً أو هجرةً، لتتراكم المشاعر ويبني الحنين أعشاشه موقفاً بعد موقف. ينجبون أولاداً، يحبّونهم يمنحونهم كلّ ما لديهم، ومن ثمّ يغادر الأبناء ويعيدون تلك السيرة الخالدة مع أبناء آخرين. 

وهكذا ينشغلُ البشر دائماً عن أحداث حياتهم بأحداث أخرى، نجاحٌ يقود إلى نجاحٍ آخر، وفشلٌ يصنع فشلاً آخر، أو تواترٌ يفضي إلى الانشغال نفسه بالمجهول الذي قد تأتي بهِ الحياة. وفي غمرة تلك الانشغالات؛ يتيحُ الأدب للإنسان أن يقرأ ذاتهُ، أن يفهم آلامها، وأن يتوقّف -ولو لساعات قراءة رواية ما- ويتأمّل في مصائر شخصياتها، التي قد تحاكي أو ربما تقترب من تجربتهِ. يتيحُ الأدب للإنسان، أن يتأمّل حياتهُ من خارج تلك الحياة. لربما يقودهُ ذلك إلى أن يشفقَ على حالهِ، ويدرك عمقَ عجزهِ. وقد يقودهُ أيضاً إلى تفكيك إحدى خساراتهِ، والتحرّر من التبعات النفسية للخسارة. إذ يتيحُ الأدب للمرء أن يقرأ خسارات الآخرين، أين بدأت وكيف انتهت، وكيف يفقد المرء شيئاً فشيئاً ما تَحصّل عليهِ.

يحتاجُ المرء حكايةً كي يقرأ على ضوئها حكايتهُ

يسم إيكو تجربة الإنسان بالفوضى، وفي حياة يحدث فيها كلّ شيء، ويندفع فيها كلّ شيء إلى ذاكرة الإنسان بشكلٍ غامضٍ ومترامٍ، وعلى نحو لا يكون معه قادراً على فهم ذاتهِ، والتعاطي مع ذاكرتهِ. يأتي الأدب كي يختار من تلك الفوضى، ويجعل لما يختارهُ شكلاً يمكن للإنسان أن يقرأه ويستخلص منهُ، أو يأنسَ له وفيهِ. إذ يجعل الأدب الحياة قابلةً للفهم، إمّا باجتزائهِ من أحداثها الغزيرة، أو بوضعها في إطارِ الحكاية، يحتاجُ المرء حكايةً كي يقرأ على ضوئها حكايتهُ.

لكن حتى إيكو ينبّه إلى الوظيفة الاستشفائية للأدب، بصفتهِ استخلاصاً من الحياة، معاينةً لتجربة الإنسان، وإعادة إخراج لها. بالطبع لا يقصد إيكو النظر إلى ما هو قبيح على أنّه جميل، أو رؤية الجانب المشرق وحسب. وإنّما عبر ابتداع الشكل يَحتالُ الأدبُ على الوعي، ويساعد الإنسان على قراءةٍ ما يحاكي مداركه المتواضعة. فمواجهة التجربة الإنسانيّة بأكملها أمر شاق على وعي الإنسان، وتكاد تكون مستحيلة.

تبقى التجربة الإنسانية هي مضمار الشفاء، ولربما أكثر ما يستطيع الأدب فعلهُ، هو أن يخفّف عن الإنسان ثقل أحزانهِ، وأن يُشعره بشيءٍ من روحِ الرفقة. ويقول له؛ أيّها الإنسان المتألم لستَ وحيداً. قصة فقدكِ حدثت من قبل، وحكاية عجزك حدثت، الخديعة أمرٌ يحدث، والحروب أمرٌ يحدث على امتداد الأزمنة. وفي غمرة الحكايات التي تصنع إرث البشر، لربما يمثل الأدب أداة مثلى كي يشرح لهم جانباً من تجاربهم، باستخدام شكلٍ فني واعٍ ومؤثر، غير تلقائي وغير بريء، يوقع بهم في شَرك التشابه. إذ يقدم الأدب أكثرَ أدويتهِ فعاليةً باستخدام النماذج التي تتكرّر دائماً عن الحب والصداقة، عن الخيانة والآمال المحطمة. عندما يخبر الفرد بأنّه ليس استثناءً، وليس الأول في أحزانهِ، وإنّما للإنسانية تجربة واحدة وشاسعة، تعيدُ نفسها دائماً.


* كاتب من سورية

موقف
التحديثات الحية

المساهمون