"عينان خضراوان" لحامد الناظر: ملحمة الحروب السودانية

"عينان خضراوان" لحامد الناظر: ملحمة الحروب السودانية

06 يونيو 2021
(حامد الناظر)
+ الخط -

"عينان خضراوان" رواية السوداني حامد الناظر الصادرةُ عن "دار التنوير" (2020)، والتي وصلت إلى القائمة الطويلة لمسابقة "الجائزة العالمية للرواية العربية - بوكر". وقد يشكل، عدم وصولها إلى القائمة القصيرة، سؤالاً حقيقياً. عنوان الرواية يعود إلى أنَّ بطلتها، وراويتها غالباً، "حياة" المشهورة بـ"عرفة" ذات عينين خضراوين فريدتين في لونهما وإشعاعهما. هاتان العينان اللتان تستلفتان الكثيرين، هما أيضاً سمة فرادة لصاحبتهما، سمة امتياز لا نعرف مصدره الآن، إلّا أنْ تكون واحدة من جدّاتها جاءت من خارج السودان. لن تكون العينان الخضراوان سوى مدخل لفرادة وامتياز عرفة هذه. فرادة لا تتجلّى فقط في إصرارها على العلم، ولكن في سلوكها كلّه، الذي يتكشّف استقلاله وصلابته كلما مضينا قُدُماً في الرواية. إنها بهاتين العينين غريبة في مجتمعها، وستكون أكثر فأكثر غريبة فيه.

الرواية تشرف على التاريخ الحديث للسودان، الذي نعرفه من بعد. إنه تاريخ حروب داخلية، وإن يكن الخارج، إريتريا بخاصّة، ليس بعيداً عنها. هذه الحروب التي يخوضها الإسلاميون و"الجبهة الشعبية" في الجنوب والإريتريون، هي مجرى الرواية وسياقها. الرواية التي تقارب الـ400 صفحة تتابع هذه الحرب عبر عرفة التي غادرت مع أبيها العقيق حيث يقيمان، هرباً منها، الأمر الذي لا يمنع من سقوط الاثنين في الأسر.

سيرة إذلال مثابر تعانيه عرفة، لكنها لا تنكسر فيه

بعد ذلك تستقل عرفة بالرواية وتغدو عنها طوراً، وبلسانها طوراً آخر. تروي عرفة حوادث الأسر الذي تنتقل فيه من مكان إلى مكان، وفي كل مكان تصادف عساكر أفظاظاً ينفردون بها ويعتدون عليها، في اغتصابات متلاحقة. إنها سيرة إذلال مثابر تعانيه عرفة، لكنها لا تنكسر فيه. رغم المهانة والعسف والقسوة، تظلّ عرفة مسكونة بهاجس الانتقام، وهو ليس هاجساً فحسب، بل تتوصّل إلى ممارسته حين تحين الفرصة. بهذا الانتقام تغدو عرفة قاتلة، إنها تلقي النار على واحد وتميته حرقاً، في ما تُعمل العدّة المعدنية في آخر وتقتله. تقتل وتقتل بدون إحساس بالذنب أو الندم.

لا نقول إنَّ عرفة تقاوم، ليس هذا فحسب، بل هي أيضاً تعيش وتتفاعل وتحب. بين آسريها من ليسوا أفظاظاً ولا سفّاحين، بينهم من يستحق الحب، وعرفة في أسرها المهين تمرّ أيضاً بأحوال حب. هناك الأسر، هناك في المقابل وبموازاة الأسر حياة أُخرى، تنتقل فيها عرفة من محل إلى آخر. تعيش فترة مع رحمة وبائعات الشاي، وتعمل فترة أُخرى في كنيسة في ظلّ الكاهن الطيّب والرحيم، وفي النهاية تتزوّج موريس المسيحي زواجاً مسيحياً. قد يكون الكاهن المسيحي الطيّب أثّر فيها، لكننا لا نفهم مِن الرواية أنّ عرفة قبلت الزواج المسيحي، لأنها بخلاف الظرف والمجتمع الذي منه أبواها وعائلتها وأقاربها المسلمون، بخلاف هذا عرفة لا تكترث بالدين ولا تفرّق بين الأديان. إنها مشغولة بالناس كأناس لا كأهل دين أو عشيرة.

الصورة
عينان خضراوان - القسم الثقافي

مع ذلك فإن عرفة هكذا تستوقفنا وتستلفتنا، إنها مثل عينيها الخضراوين الفريدتين مستقلّة وفريدة، وأكاد أقول حرّة. تزوّجَت عرفة موريس زواجاً مسيحياً، لم تكترث هي لطابعه ذاك وقبلته لأنها لم تضع الدين في حسابها. لقد أحبت موريس وأرادته زوجاً ولم تُبال على أي دين يقوم الزواج. لكن حين يستفز ذلك أهلها، أباها وأقاربها، الذين اعتبروا الزواج باطلاً من وجهة دينية. حين أشهروا عليها دعوى وساقوها إلى المحكمة، حينذاك أعلنت عرفة مسيحيتها، رغم ما قد يجرّه ذلك من عقاب الردّة في حكومة إسلامية، وهو القتل.

أصرّت عرفة على مسيحيتها، ولم يكن الإيمان حافزها في ذلك. كان حافز المرأة المغتصَبة بكلّ ما في ذلك من مذلّة، شيء آخر يتعلّق بكرامتها واستقلالها وحريتها. غدرها زوجها الذي خضع لتهريب الإسلامييّن وطلّقها، وهي لدى هذا الطلاق لم يعد لديها ما يجعلها تصرّ على مسيحيتها، لقد كان هدفها من ذلك هو حماية زواجها، وها هو زوجها الخائف يتخلّى عنها. بالطبع هناك خطر على الابن الذي كانت حاملاً به، خطر من أن يُعتبر ابن سفاح، لكن عرفة كانت ألقت ابناً ولدته بسبب الاغتصاب، ألقته على عتبة باب وتخلّت عنه. ليست الآن مستعدّة لإعادة ذلك.

إنها مثل عينيها الخضراوين الفريدتين مستقلّة وفريدة

تُصرّ على مسيحيتها رغم أنها لم تعد لازمة لها، تُصرّ عليها لأنها بذلك تحمي حقّها في أن تختار لنفسها ما تريد. المسألة ليست مسألة إيمان، إنها مسألة حقّ ومبدأ، إنها هذه المرّة كرامتها في الحساب، إنها حريتها. هنا يمكن أن نفهم اختلاف عرفة، هذا الاختلاف الذي بدأ بلون عينيها الخضراوين. لن تكون العينان الخضراوان هكذا سوى مفتاح اختلاف.
ما 
رواية حامد الناظر لم تصل إلى هذه النتيجة إلّا بعد أن استخلصتها من سرد روائي قوي، يمكننا أن نصف الفنّ الروائي هنا بأنه محكَم. إننا أمام جملة سردية ذات إيقاع وذات فن وذات قدرة على حياكة النص وعلى تحريك التفاصيل، وعلى البناء والترسل والاستطراد الحيوي. إننا أمام ما يكاد يكون عملاً ملحمياً، فرحلة عرفة بمذلاتها وانتقاماتها هي، فصلاً بعد فصل، هذا الترسل الملحمي الذي ينتهي هو الآخر بقمّة ملحمية. رواية "عينان خضراوان" ليست فقط إطلالة على السودان، بل هي الحرب السودانية وقد حلت في رواية وفي أدب لافت ونفّاذ.


شاعر وروائي من لبنان

المساهمون