"كان يا ما كان الرواية": سيرةٌ إذاعية

"كان يا ما كان الرواية": سيرةٌ إذاعية

05 يونيو 2021
أمام مكتبة "شجرة المسافر" في الدائرة الخامسة بباريس، 2020 (Getty)
+ الخط -

ربما لم يسبق لواحد من الأشكال أو الأنواع الأدبية أن عرف هيمنةً كهذه التي تعرفها الرواية منذ نهايات القرن التاسع عشر. أمام الشعر والمسرح والمقالة وحتى القصة، فرضت الرواية نفسها باعتبارها الشكل الأدبي الأكثر مقروئيةً وحضوراً. كما لا يتردّد البعض، مثل الفيلسوف الهنغاري جورج لوكاش، في اعتبار الشكل الروائي الأكثر قدرة على التعبير عن عالمنا الحديث والمعاصر، بتناقضاته وصراعاته.

في هذا السياق العام، باتت كلماتٌ (قادمة من لغاتٍ غربية) مراجعَ ليس فقط في تسمية النوع الأدبي لنصّ أو كتابٍ ما، بل أدواتٍ لتقسيم عالم الكتاب إلى نصفين. فقد صار شائعاً ــ في عوالم اللغتين الإنكليزية والفرنسية، وأحياناً في اللغة العربية ــ تقسيم الإصدارات إلى تلك التي تنتمي إلى الخيال أو السرد (فيكشن)، وتمثّلها الرواية بشكل أساسي، وتلك التي لا تنتمي إليه، أي غير الخيالية، وهو تصنيف فضفاض تنطوي تحته كلّ الأنواع الأخرى من أعمال فكرية وبحثية وعِلمية وسيَرية، بل وأحياناً شعرية ومسرحية.

على أن الأمر لم يكن كذلك طيلة الوقت. فكلمة "فيشكن"، التي تعرف عزَّها في أيامنا هذه، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بالرواية باعتبارها تدلّ عليها، كانت مطلع القرن التاسع عشر، في إنكلترا، كلمةً تُستخدَم للتحقير والسخرية، حيث كانت تدلّ على الكذب والخداع، لا على الأعمال السردية، كما يقول الأكاديمي الفرنسي المختصّ بتاريخ الرواية في إنكلترا، جان فيفياس، في الحلقة الأولى من السلسلة الوثائقية الإذاعية "كان يا ما كان الرواية"، التي بدأت إذاعة "فرانس كولتور" الفرنسية ببثّها قبل أيّام.

تشتمل السلسلة على أربع حلقاتٍ تمتدّ كل واحدة منها ساعة تقريباً، بحيث تعود الحلقة الأولى، المعنونة "صُنع في إنكلترا"، إلى صعود نجم الرواية في هذا البلد ــ ومن ثم في أوروبا ــ بدءاً من القرن التاسع عشر، بعد أن كانت موضع شبُهات ونقد، حتى أن الكتّاب كانوا يُضطرون إلى توقيع أعمالهم بأسماء مستعارة، أو إلى غشّ قرّائهم بالقول إن الرواية ليست من صُنع الخيال (فيكشن)، بل هي سردٌ لوقائع حقيقية.

أما الجزء الثاني من السلسلة، "تشريح الرواية"، فيعود إلى قرنٍ ــ هو القرن العشرون ــ من حياة الرواية في فرنسا، مع التساؤل حول لحظتين مهمّتين في هذه الحياة: رواية مارسل بروست "بحثاً عن الزمن المفقود" وتأثيرها الكبير على السرد الفرنسي وصعوبة تجاوزها، وإعلان الناقد رولان بارت "موتَ المؤلّف" عام 1968. كما تُعرّج هذه الحلقة، بشكل أساسي، على موجة "الرواية الجديدة"، الذي ما يزال تأثيرها قائماً في الإصدارات الروائية الفرنسية حتى اليوم.

الحلقة الثالثة تناقش مسألة "عودة الواقع" إلى النص الروائي، وذلك تحت أشكالٍ متعدّدة، مثل الروايات التي تستند إلى وقائع حقيقية، ورواية السيرة الذاتية، مع مساءلةٍ لما أثارته هذه العودة إلى الوقائع من نقاشات وفضائح طيلة القرن الماضي وحتى اليوم. حيث فتحَ بعضُ الكتّاب أبواب حياتهم، وأكثر تفاصيلها حميميةً، أمام القرّاء، ما دفع كثيرين للتساؤل عن فائدة ذلك، في حين تقدّم بعضُ الواردة أسماؤهم في هذه الأعمال بدعاوى قضائية ضد الكتّاب، باعتبارهم استخدموا تفاصيل واقعية من حياتهم وكشفوها أمام القرّاء، كما حصل قبل أشهر مع الروائي الفرنسي إيمانويل كارير، الذي هاجتمه زوجته السابقة لتعرّضه إلى تفاصيل حميمة من علاقته معها في روايته الأخيرة، "يوغا" (2020).

الجزء الأخير من السلسلة الوثائقية يحمل عنوان "انتصار الأكثر مبيعاً" (البيست سيلر)، وفيه يحاول المشارِكون ــ من روائيين ونقّاد وأكاديميين ــ تقديم تعريفٍ أو تعريفاتٍ لتلك الكُتب التي تُصنَّف باعتبارها الأكثر مبيعاً، كما يسعون إلى التمييز بين أعمال تجارية وأخرى جدّيّة يجري تصنيفها تحت هذا البند، كما حدث مع رواية "الخلَل" للفرنسي هيرفيه لو تُلييه، التي بيع منها ما يزيد عن مليون نسخة منذ نيلها جائزة "غونكور" 2020.

رغم شموليّتها في ما يخصّ المشهد الروائي الغربي وتاريخه، ولا سيّما الفرنسي، إلا أن السلسلة الوثائقية تتوقّف هنا، من دون البحث في مظاهر وتواريخ روائية اتّخذت من عوالم غير الخريطة الغربية مكاناً لها، كما هو حال الرواية العربية، أو الاشتغالات الروائية في أميركا اللاتينية وشرق آسيا، وهي جغرافياتٌ لم تتوقّف الرواية عن التطوّر فيها منذ بدايات القرن العشرين.

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون