كُتّاب أمام المحاكم

كُتّاب أمام المحاكم

24 يناير 2021
مايا نيستاني/ إيران
+ الخط -

"غير مسموح بيع الرواية للقُصّر"، وللتأكُّد من أنّ الشبيبة لن يحصلوا على معلومات عن وجود الكتاب، صدر قرار بمنع الكتاب وعرضه على الملأ، بل إنّ وضع عنوان الكتاب في قائمة منشورات الدار كان ممنوعاً. بكلمات أُخرى، "يوسفيناه مونتسباخر" اختفت مجدَّداً عن الأنظار، لكن ظلّ شراء الرواية، سرّاً ومن تحت الطاولة، ممكناً وعلى نحو شرعي تماماً، لأولئك القلائل سعداء الحظ، الذين يسألون عن الرواية، والمستعدّين للتوقيع على ورقة مطبوعة في كل نسخة ونصّها كالآتي: "إن مشتري هذا الكتاب يؤكّد على ورقة تعهُّد مرفقة، بأنه أتمّ الحادية والعشرين، وهو مهيَّأ للاطلاع على محتوى الكتاب الذي لن يثير استنكاره، وإنه يتعهّد أيضاً بحجبه عن الشبيبة تحت سن الـ21، وإبعاده عن كل الأشخاص الذين ليسوا في وضع يسمح بالاطلاع عليه، اطلاعاً موضوعياً".

المقطع الذي سلَف مجتزأ من كتاب "أدباء أمام المحاكم"، الأدب الممنوع عبر أربعة قرون، والكتاب المترجَم عن الألمانية من قبل سمير غريس وآخرين، يحوي، كما يدلّ عنوانه، على مقالات تتناول محاكمة أدباء بالألمانية على كتب، في غالبها روايات، حوكمت على أنها خارجة عن القانون في مواضيع، هي الدين والجنس والسياسة.

المقطع هو لفولكر هاغه ويتناول ما وقع على رواية "يوسفينا مونتسباخر" التي نُشرت لأوّل مرّة 1906 ونُسبت إلى فيلكس سالتن، الذي لم يقرّ بكتابتها، وردّ على سؤال لستيفان زفايغ عمّا إذا كان المؤلف "إذا أنكرت أنّ للمؤلف لن يصدقني أحد، وإذا اعترفتُ فسيعتبر الجميع ذلك مزاحاً". الجواب كما نلاحظ لا يقرّ بشيء.

عدم انتشار الظاهرة عربياً سببه تحفّظ الكتّاب واحتياطهم

أنكرت عائلة سالتن بعد وفاته أنّه المؤلف، وإن رفعت حفيدته دعوى قضائية تطالب بإثبات نسبة الرواية لجدّها، بحجّة أنّ الجميع يعرف ذلك. أياً كان الأمر فإن الجدل الذي دار حول الرواية، التي اعتُبرت الروايةَ البورنوغرافية الوحيدة التي خطّها كاتب ألماني، حتى ذلك الحين، والتي تروي سيرة عاهرة من فيينا، هذا الجدل انتظر حتى الستينيات في القرن الماضي.

آنذاك كان أدب هنري ميلر وجان جينيه، والأدب البورنوغرافي، ذائعاً ومنتشراً. لكن الرواية التي حوكمت مجدَّداً بعد غياب النازية، وفي حقبة ليبرالية، كانت ما تزال مثيرة للجدل، ولم تتجرّأ المحكمة على السماح لها بالنشر، إلّا بقدر من التحايل، بل وبتمويه يستدعي التعجُّب كما نلاحظ من المقطع السابق. مع ذلك فإنَّ هذه الصيغة التي تجمع بين المنع والسماح والرفض والقبول، تعبّر عن مرحلة انتقال بين المحافظة والإباحة. لم تكن الثقافة الألمانية وحدها تمر بها.

لا بد أن نفكر عند ذلك بالثقافة العربية، أو قل الثقافات العربية، فهي، كما نعلم ليست واحدة. لنفكّر بما يقع على هذه الثقافات من رقابة وما واجهته أمام المحاكم. قد يبدو لافتاً أننا لا نعثر على الكثير من ذلك في بلاد لا تزال تعيش، سياسياً وأيديولوجياً، في مناخ محافظ. لا نعثر على الكثير في تاريخنا الثقافي والأدبي الحديث، وإن كنّا نقع على وفرة منه في تراثنا الفكري والأدبي، بل ونجد مثالات بارزة منه.

لا يزال الدين والسياسة المجال الأوفى للمعارك والمحاكمات

هناك الماجنون والسكارى والمثليون والملاحدة بكثرة، ولدرجة أنَّ بعضاً من ذلك، أو الكثير منه، صار زياً سائداً هناك إلى جانب أبي نواس وشعراء المجون والمثلية والرازي وسواه كابن الرواندي من الملاحدة. بعض هؤلاء واجهوا مواجهات فعلية، لكن المجون والمثلية وحتى الإلحاد كانت ذات حضور دارج وشبه مشروعة، بحيث أن الاضطهاد الذي وقع على أصحابها أو المحاكمات التي واجهوها لم تكن بمقدار فعاليتهم وأخبارهم.

في العصر الحديث قد نردّ قلّة ذلك إلى سبب آخر هو تحفّظ الكتّاب واحتياطهم. مع ذلك نقع على أمثلة بارزة. في القرن الماضي نعثر على محاكمات مشهورة. في مصر نقع على محاكمة الشيخ علي عبد الرازق على كتابه "الإسلام وأصول الحكم" الذي ذهب فيه إلى أنّ الاسلام دين وليس دولة. لم يكن هذا مقبولاً ولا مشروعاً في نظر القائمين على الدين أو على السلطة، فأثار كتاب عبد الرازق ضجّة ودويّاً وجدلاً لا تزال قائمة إلى الآن.

نظرية علي عبد الرازق هي للآن مثار نقاش ولا تزال، حتى اليوم، أقلوية. بينما من الجهة الثانية أثار كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" الذي ذهب فيه إلى أنّ الشعر الجاهلي منحول، دويّاً لم يكن مردُّه تحقيقه في تاريخية الشعر الجاهلي، ولكن ما تداعى إليه هذا الرأي في الدين، وما اعتُبر في حينه طعناً في نبيّ الإسلام والقرآن، أي ما ذهب إليه من أنّ الدين لا يشكّل مصدراً للتاريخ، وأن هذا ليس من بنيانه، ولا يُسأل عنه الدين بل التاريخ. شكّل ما أورده طه حسين "في الشعر الجاهلي" استفزازاً واضحاً لا يزال قائماً، رغم أنّ القاضي محمد نور آنذاك، أنكر دعوى جناية الكتاب على الدين واعتبر أنّ هذا لم يكن سياق الكتاب ولا قصده، وأنه يذهب إلى مقاصد أخرى.

غيّر طه حسين في كتابه، وغيّر عنوانه وأصدره بعد ذلك بعنوان جديد "في الأدب الجاهلي". طُويت المسألة لكنها لا تزال رغم ذلك غير محسومة ولا منتهية. نفهم من ذلك أنّ الدين، الذي كان مدار كتاب صادق جلال العظم "نقد الفكر الديني"، لا يزال هو المصدر الأول للمحاكمات والمعارك النقدية. ليس للجنس وأخلاقيته نفس الدرجة. هناك بالطبع معارك ومحاكمات في هذا المجال، لكن تحفُّظ الأدباء الفطري يحول غالباً دون ذلك، وإن بدا في الحقبة الأخيرة أن درجة من الحرية، بل وحتى الانفلات، بدأت تطغى على هذا الأدب. مع ذلك لا يزال الدين ولا تزال السياسة هما المجال الأوفى للمعارك والمحاكمات.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية

المساهمون