الحلم العربي

الحلم العربي

27 ديسمبر 2020
حامد عويس/ مصر
+ الخط -

يمكن لجيل استفاق على قضية فلسطين، أن يتساءل أين صارت "قضية العرب الأولى" والوحيدة في أحيان، وكيف يتطابق الأفق السياسي والثقافي مع ما صارت إليه. إذا جاز أن نتكلم عن "تربية" جيل، بحسب مصطلح عبد القادر الجنابي، عما نقصده في مجال آخر "الثقافة"، فستكون قضية فلسطين، على نحو ما عمودها. كانت هذه القضية وراء الثقافة ووراء السياسة ووراء الفن والأدب. كان الحلم القومي، ولا نخطئ حين نسمّي ما جرّت إليه استعمارات ما بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، وما بدا انتفاضاً عليها، حلماً.

الأرجح أن هذا التجاوز والتحليق فوق البناء العشائري والطوائفي والأهلي، لما صار، فيما بعد أقطاراً وبلداناً وأوطانا. الإعلاء إلى ما فوق التركيب الاجتماعي والتاريخي يمكن أن يسمّى، ببساطة، نوعاً من الحلم. نوعاً من التخييل الذي يسبق الواقع ويتقدّم عليه، ويبقى مع ذلك لحمة إيديولوجية تعيش وتتكون حولها، وبإيعازها، حركات وأحداث، سرعان ما تبدو بدون أساس وبدون واقع، أو تنقلب على دعواها الأولى، ليس علانيّة بالطبع، لكن مع استمرار في ادعائها. 

لا يبدو أن الحلم القومي حيث ساد أثمر مؤسسات ودولاً. مع استمرار الدعوة يتم استرداد نزعات قبلية وقطرية وطوائفية، تحت شعار يبدو، بوضوح منفصلاً عما يجري. لكن الحلم قد تكوّن مع ذلك، له تجلياته الفكرية والفنية التي تتعيش من تعاليه وتساميه.

الحلم، كلما تقدمنا فعلاً في السياسة والواقع، بدا، أكثر فأكثر، حلماً. ذلك بالطبع قد يجعله أكثر إلهاماً، إذ يمكن للحلم، في انقلاباته وتحولاته، أن يتحوّل الى تراجيديات، وإلى ملاحم وأوديسات كونية. هذا ما انقلب إليه الشعر على سبيل المثال. 

 

واقع يرفض أن يتسمى وحلم لا يزال يرفض أن يكون مجرد كلمات

قد يمكننا أن نردّ حداثة هذا الشعر المأساوية والمهزومة، إلى هذا النوع من الانفصال والانتكاس والغربة عن التاريخ والواقع اليومي والخيبة العضوية، والتخييل القومي والوطني. بل يمكن أن نردّ إلى الشيزوفرينيا القائمة، بين النص الأيديولوجي والممارسة الفعلية. يمكن أن تكون هذه الشيزوفرينيا نواة وجوهر الثقافة العربية اليوم.

الواقع السياسي الآن أجرد وأجوف وباهت وسخيف، بحيث لا يتيح الحلم، أو حتى التوقع. هذا قد يفسّر الاغتراب الذي يسِم الثقافة والفن أو إعلاؤهما من ناحية أخرى. كما يفسّر الفضائحية التي تسِم أحياناً محاولات تقوم على السخرية والهزء، إذا قابلنا ذلك مع قفزات سياسية تنتفض على الحلم القومي، في اتجاه وإرساء مطالب قطرية، وتقديم مصالح وظروف وتكاوين تخص الواقع المحلي. التطبيع الذي نحت اليه، في الفترة الأخيرة، أقطارٌ وازنت بين التحدي الاسرائيلي والتحدي الايراني، مستعينة بالأول على الثاني. 

هذا التطبيع يبدو أيضاً انتصاراً للمصلحة الآنية على الحلم. ذلك يعني أن مغالبة الحلم وبناء وقائع خارجه، بدأت تخرج من مراوحتها وازدواجها الشكلي، إلى الاقرار بالوقائع الجديدة وإعلانها جهراً. هذا يتم في الغالب بدون مقابل فكري أو ايديولوجي، إذ إن الحلم القومي تلقّى سيلاً من الانتقادات التي، مع ذلك، لا تدينه ولا ترفضه كلياً. الإشارة هي فقط إلى حلميته واغترابه عن الواقع وتساميه فوقه. 

الإشارة بالطبع إلى خيانته المتوترة والانقلاب عليه باسمه غالباً، وما جرّه ذلك من خيانات له أو أخطاء وخطايا دعته وصدرت عنه. أي أن ما بدا، في الغالب، هو مأساوية هذا الحلم وسرابية دعاويه وانقلاباته على نفسه، وما انتسب إليه وادّعاه من هزائم ونكسات، أي ما يمكن اعتباره فضيحته الضمنية. فضيحة كائنة فيما تلقّاه من داخله من خيانات وغدر. 

لا زال الحلم قائماً، لكن هذه المرة كحلم، إذ لا نجد في المقابل بديلاً منه. أسسه وأسماؤه الحسنى لم تتلق رفضاً، فالرفض ينصب على أمثلته الغادرة والمغدورة، الرفض ينصب على مسمياته المزعومة، لكن مسمياته الأولى وأمهاته لا تلقى الدرجة نفسها من الرفض والانتقاد. هكذا ندخل أكثر فأكثر، في نوع من الانفصام بين واقع يرفض أن يتسمى وحلم لا يزال يرفض أن يكون مجرد كلمات.

(شاعر وروائي من لبنان)

موقف
التحديثات الحية

المساهمون